خواجات بي بي سي والسودان

0 85

كتب: جعفر عباس

.

كان العمل في تلفزيون بي بي سي ممتعا، ولكن العيش في لندن لم يكن كذلك: تطلع من البيت 7 صباحا كي تصل منطقة وايت سيتي 9 و تظل تعمل حتى 7 مساء، وتستغرق رحلة العودة اكثر من ساعة لأنني كنت أقيم في شمال لندن القصي، واخترت تلك المنطقة لأنه ليست بها أقليات متشاكسة ففي المدن البريطانية وحيثما تواجد عدد كبير من الآسيويين وذوي البشرة السمراء مع عائلات “بيضاء” نشأت عصابات تعتدي على بعضها البعض، واخترت بيتا في شارع ليس فيه حانة pub فالإنجليز مغرمون بالبيرة وتلك الحانات منتشرة كما البقالات في كل ركن، والسكران “ما عنده أمان”، وكان بيتنا في الحلة الجديدة في كوستي يقع في شارع يمر به العائدون من الإنداية بعد ان يكرعوا المريسة بكميات تجارية، والمريسة كثيرها يسكر ولكن حتى قليلها ينشط المثانة ومن ثم كان العائدون من الانداية يتبولون على اسوار البيوت الواقعة في طريق عودتهم فأتى أبي بكلب لم يكن يعمل بالمقولة السودانية “السكران في ذمة الواعي”، بل كان يطارد السكارى دون ان يعضهم أي يكتفي بالنباح والتخويف وشيئا فشيئا خلا شارعنا من السكارى نهائيا ولهذا اطلق اهل الحي على الكلب لقب الأستاذ.
من المصادفات العجيبة ان خمسة من بين سبعة بريطانيين كانوا معنا في تلفزيون بي بي سي العربي كانوا قد عملوا مدرسين في السودان، بول في مروي وفيرقس نيكول في البرقيق وتشارلس في عبري وريتشارد في الخرطوم اما ديفيد فقد أقام في السودان تسع سنوات متتالية دون ان يغادره في إجازة لأنه كان يقضي الاجازات متجولا في انحاء البلاد، وما جعل ديفيد هذا يحب السودان اكثر انه كان يهوديا وان معارفه في السودان كانوا يعرفون انه يهودي ومع هذا قال انه لم يسمع منهم كلمة جارحة، وتم ابعاد الخمسة من السودان عندما قررت حكومة الكيزان ان الإنجليزية لغة كفار وخفضت ساعات تدريسها ومنعت “الكفار” من تدريسها.
تشارلس يعرف الكثير من اللغة النوبية بحكم العمل في منطقة المحس ولديه تسجيلات نادرة لمطربين نوبيين، ويستمع الى وردي على مدار الساعة، أما فيرقس نيكول فقد صار متخصصا في الشؤون السودانية، وفي كل مرة يزور فيها السودان يحمل معه الى بريطانيا كميات من القريب فروت والجوافة، واصدر عددا من الكتب عن الثورة المهدية وحقبة استعمار بريطانيا للسودان، وأثار كتابه عن “دائرة المهدي” ضجة ونقاشا كثيرا
اثنان من هؤلاء الخواجات كانوا من المدخنين وعانوا في سنتهم الأخيرة في السودان من عدم استلام الرواتب، ولهذا دخلوا في عالم التمباك، وكانوا يشترونه بعد العودة الى لندن من سوق شبردس بوش الذي يجمع بين خصائص سوقي ليبيا وسعد قشرة.
وأتذكر هنا جون كلهار استاذي في المعهد الذي تلقيت فيه التدريب على العمل التلفزيوني في زيارتي الأولى للندن، يوم دعاني الى الغداء وذهب بي الى مطعم صغير ومظلم يقع في زقاق شبه مهجور، ولما رأى الاستياء على وجهي قال لي انه عمل في السودان وزامبيا واثيوبيا واكل في أسواقها وكان يشرب الماء من الأنهار او الجداول وسط المزارع مباشرة وان ذلك ساعده على تطبيع العلاقات مع الكثير من أنواع الباكتيريا وانه صار حريصا على ارتياد المطاعم الشعبية كي لا تصبح معدته هشة وعلى الهبشة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.