السودان: “كلهم يدرك أنهم على شفا جرف هار ولكن ليس بينهم من استدبره”.

0 67
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
العبارة الأكثر دوراناً في خطاب الأزمة السودانية هي التصارخ بأن بلادنا على “شفا جرف هار”. وربما صح، والمتصارخون كل في شغل بمشروعه الصغير، قول عن الإنجليزية: “كلهم يدرك أنهم على شفا جرف هار ولكن ليس بينهم من استدبره”.
المخافة على السودان مما يلبد سماء وحدته حق. ففشا تلويح الإقليم السوداني منه بأنه سيطالب بتقرير مصيره إذا لم ينل مطلوبه من المركز. وبالنتيجة فإشفاق الناس من انفراط البلد مما لا سبيل للتهوين منه. فقد شهدوا انفصال جنوب السودان في 2011 بعد اتفاق في 2005 منحه حق تقرير مصيره إن لم تكن فترة الحكم الانتقالي، الذي تم تمثيله فيها بشكل واسع، جاذبة. ولماذا نذهب بعيداً في الماضي. فعلى أيامنا هذا تسيطر الحركة الشعبية لتحرير السودان (جناح عبد العزيز الحلو) على قسم كبير من جبال النوبة (40 ميلاً x 90 ميلاً مربعاً). وتتوعد من فوق أرضها المحررة بالانفصال إذا لم تعلن الدولة علمانيتها صراحة. ويتواتر خبر مطلب تقرير المصير الآن بصورة أو أخرى من أقاليم لم يعرف عنها هذا النازع من قبل مثل أجزاء كبيرة من شرق السودان والإقليم الشمالي.
وجدت هذه القوى المستدبرة لمركز الدولة (centrifugal) في اتفاق سلام جوبا (أكتوبر 2020) وذيوله السياسية، التي تضرج بعضها بالدم، سبباً لإعلان زهدها في السودان. فحصلت بالسلام حركات مسلحة من دارفور لا تمثل أكثر من 5 في المئة من سكان دارفور نفسها وحلفاؤها السياسيون من أقاليم أخرى على مكاسب غراء تدعو للحسد فعلاً.
غطى هذا السلام بالتجزئة على استراتيجية مهجورة هي السلام إجمالياً. فرهنت الاستراتيجية الأخيرة إحلال السلام في السودان بمؤتمر دستوري جامع يعيد فيه السودانيون التفاوض في وطن موروث من الاستعمار بعلاته. وقد تواثقت على قيام ذلك المؤتمر الحكومة والقوى السياسة بما فيها الحركة الشعبية لتحرير السودان (العقيد جون قرنق) في 1989. واستبعدت الجبهة الإسلامية القومية نفسها من الترتيبات لعقد المؤتمر لاعتراضها عليه. فوصفته بالاستسلام لحركة “التمرد” وتقصد بها حركة القوميين الجنوبيين بقيادة قرنق. ومعلوم بالطبع قيام تلك الجبهة بالانقلاب على الحكومة الديمقراطية في يونيو من نفس السنة المزمع فيها عقد المؤتمر الدستوري.
توقف مشروع المؤتمر الدستوري بالطبع واستبدلته حكومة الإنقاذ التي أنشأها الانقلاب بالتفاوض المباشر مع الحركة الشعبية. وشنت جنباً إلى جنب مع التفاوض حرباَ ضروساً ضد “التمرد” لفرض شروطها للسلم عليه. ولم تكن الإنقاذ في أفضل أحوالها السياسة ووسط مقاطعة أمريكية وغربية حين تراضت مع “التمرد” على اتفاق السلام الشامل في 2005. ولم ينل به “التمرد” شراكة مرموقة مع الإنقاذ في حكومة الفترة الانتقالية وحسب، بل حصل أيضاً على حق تقرير المصير كما تقدم. وكان طبيعياً أن يثير اتفاق الجنوب الحسد السياسي في دارفور التي ربما كانت طلائعها هي الأنشط في دولة الإنقاذ نفسها. فخرجت حركاتها المسلحة على النظام في 2004. وتبعتها حركات مسلحة من شرق السودان. ومنعاً للتطويل تعاقدت دولة الإنقاذ على السلام مع تلك الحركات، والغالب مع طوائف انقسمت عليها، كل يأتيها فردا.
لم ترغب حكومة الفترة الانتقالية بعد ثورة ديسمبر 2018 أن ينعقد السلام مع الحركات المسلحة بالتجزئة. فدعت إلى مؤتمر للسلام شمل المسلحين جميعاً متفائلة أن يكون لسقوط النظام الذي نهضت الحركات ضده فعل سحره فيهم. ولما انحصر المؤتمر على الحركات المسلحة قصر دون أن يكون دستورياً في معنى توافد جهات البلد كافة إليه مسلحة وغير مسلحة. ومع ذلك لم تستجب للحكومة سوى بعض حركات دارفور للتفاوض المفضي لاتفاق السلام بينما تغيبت حركة في مقام الحركة الشعبية (الحلو) منه. وزاد الطين بلة أن حركات دارفور استصحبت معها في التفاوض حلفاء لها من أنحاء السودان حصلوا على مكاسب لأقاليمهم هنا وهناك فيما عرف ب”المسارات”. ولم يكن من وقعوا على هذه المسارات مفوضين من أقاليمهم مما أثار الثائرة على اتفاق جوبا. وبالنتيجة لم يرخ اتفاق السلام ظله على الأمة. وكان فتنة تسببت في مواجهات وقعت بين من ميزهم الاتفاق بالتوقيع وبين من جرى التوقيع من وراء ظهورهم. وسقط المئات ضحايا لهذه المواجهات في شرق السودان وإقليم النيل الأزرق.
ونواصل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.