.
1. أشرنا في مقال سابق أن الخروج من غياهب التخلف والتبعية الي رحاب الديمقراطية الراسخة والحل الشامل والعادل في السلام والتنمية المستقلة والمتوازنة رهين بالتغيير الجذري الذي يضع حدا للانقلابات العسكرية التي دمرت البلاد والعباد ومزقت وحدتها ، فبعد مرور أكثر من 66 عاما علي استقلال البلاد ، وصلت البلاد الي درك سحيق من التخلف الاقتصادي
يمكن تلخيص سماته في الآتي:
– ديون خارجية وصلت 62 مليار دولار.
– علاقات تبادل غير متكافئة مع العالم الرأسمالي” عجز في الميزان التجاري، وميزان المدفوعات” ..
– تهريب الفائض الاقتصادي اللازم للتنمية للخارج.
– تبعية تكنولوجية بدلا من استنباط التكنولوجيا الملائمة لواقع السودان.
– عجز غذائي أو مجاعة تهدد حاليا حوالي 18 مليون سوداني ، في بلد زاخر بالامكانيات الزراعية والحيوانية!! .
– انقلابات عسكرية ، حروب أهلية أ دت لعدم الاستقرار الداخلي، وانفصصال الجنوب.
– نماذج فاشلة للتصنيع في ظل انظمة عسكرية ومدنية فاسدة أدت لعدم تحقيق الأهداف المباشرة المنشودة، اضافة للاثار السلبية لتضخيم دور الاستثمار في التنمية.
– عدم الثقة بالنفس وتزايد الاعتماد علي الخارج “المنح والقروض الخارجية بديلا للتوجه للداخل دون الانعزال عن الخارج”.
2 . التخلف ليس قدرا لافكاك منه ، او لعنة حلت بالسودان ، ولكنه نتاج تطور تاريخي ، ومعلوم أن السودان في العصور القديمة والوسيطة شهد مولد حضارات (كرمة ، نبتة ومروي ، النوبة المسيحية، الممالك الاسلامية) ، كانت مزدهرة فيما يختص بالتطور الزراعي والصناعة الحرفية والتقنية ، وكانت تلك الحضارات لاتقل عن الحضارات التي كانت معاصرة لها في بلدان الشرق والعالم الإسلامي والأوربي.
كانت البنية الاقتصادية – الاجتماعية لتلك الحضارات مترابطة فيما بينها ، فكانت الزراعة توفر احتياجات الناس الأساسية من الغذاء ، وكانت الصناعات الحرفية توفر أدوات الإنتاج والاحتياجات الأخري ، وكانت التجارة ترتبط بالمنتجات الزراعية والحيوانية والصناعة الحرفية. وكانت المواد الخام اللازمة للصناعات الحرفية كلها محلية مثل: الخشب ، الحديدة، النحاس ، الذهب ، الصوف ، القطنة ، الخ.
أى اذا جاز استخدام المصطلح المعاصر ، أن الاقتصاد كان يقوم علي الاكتفاء الذاتي ، اى متوجه داخليا.
اما التجارة الخارجية ، فقد كانت الواردات بشكل أساسي كمالية تهم الطبقات المالكة والغنية والاثرياء مثل : الانسجة الفاخرة ، الروائح والعطور ، أدوات الزينة وغير ذلك من الكماليات التي كان يتم استيرادها في حضارات السودان القديم والوسيط ، أي ان تلك المجتمعات كانت مترابطة ومتوجهة داخليا ، بمعني أن الزراعة والصناعة الحرفية والتجارة ، كانت توفر للناس احتياجاتهم الأساسية من مأكل ومسكن وملبس .الخ، صحيح أن تلك الحضارات كانت تشهد مجاعات وأوبئة نتيجة لتقلبات المناخ والأحوال الطبيعية وتخلف الطب ، وغير ذلك مما شهدته حضارات العالم القديم التي كانت معاصرة لها.
3 . هكذا كان الوضع حتي عام 1821م ، عندما بدأ الاحتلال التركي المصري للسودان ، وباحتلال الأتراك للسودان نشأت بنية اقتصادية- اجتماعية تابعة ، بمعني أن كل النشاط الاقتصادي والاجتماعي في تلك الفترة ، كان موظفا لخدمة أهداف دولة محمد علي باشا في مصر . وتم نهب وتدمير القوي المنتجة (المادية والبشرية) ، وتم افقار السودان ونهب موارده الاقتصادية ، وكان ذلك جذرا أساسيا من جذور تخلف السودان الحديث.
وفي تلك الفترة ارتبط السودان بالسوق الرأسمالي العالمي عبر تصدير سلع نقدية مثل : الصمغ ، العاج ، القطن .. الخ ، كما شهد السودان خلال تلك الفترة غرس بذور نمط الإنتاج الرأسمالي علي الأقل في سمتين :
أ- اتساع عمليات التبادل النقدي، والعمل المأجور أي تحول قوة العمل الي بضاعة.
ب- الارتباط بالتجارة العالمية.
كانت التحولات في ميادين الاقتصاد والزراعة والصحة والمواصلات والتعليم محدودة وظل الجزء الأكبر من النشاط الاقتصادي في تلك الفترة حبيس القطاع التقليدي ، وظلت قوي الإنتاج وعلائق الإنتاج بدائية ومتخلفة.
ويمكن القول ، أن السودان في تلك الفترة شهد تدمير أو خسارة لبنية اقتصادية- اجتماعية ، دون كسب لبنية اخري أرقي.
أي ان السودانيين في تلك الفترة خسروا عالمهم القديم ، ليحل محله عالم ملئ بالبؤس والشقاء ، وارهاق كاهل الناس بالضرائب، واستنزاف ونهب موارد البلاد ، حتي انفجرت الثورة المهدية التي اطاحت بذلك الوضع ، بعد أن انفصل السودان لمدة ثلاثة عشر عاما عن المسار العام والدوران في فلك المنظومة الرأسمالية العالمية.
4 . ارتبط السودان مرة اخري بالنظام الرأسمالي العالمي ، بعد الاحتلال الانجليزي للسودان عام 1898م ، وعاد الاقتصاد السوداني مرة اخري للتوجه الخارجي ، اى اصبح الاقتصاد خاضعا لاحتياجات بريطانيا ومد مصانعها بالقطن (كان القطن المحصول النقدي الرئيسي، ويشكل 60% من عائد الصادرات) ، وتم تغليب وظيفة زراعة المحصول النقدي علي وظيفة توفير الغذاء للناس في الزراعة. هذا اضافة لسيطرة الشركات والبنوك البريطانية علي معظم التجارة الخارجية، كما خلق الاستعمار طبقات رأسمالية وشبه اقطاع ارتبطت به ، مع ارتباط السودان بالنظام الرأسمالي العالمي ، وفي علاقات تبادل غير متكافئة ، صادرات : مواد أولية (قطن ، صمغ ، ماشية ، جلود ،..) ، وواردات سلع رأسمالية مصنعة.
ففي عام 1956م ، كان 72% من عائد الصادرات تتجه الي اوربا الغربية وامريكا الشمالية، و50% من الواردات تأتينا منها أى كان الاقتصاد السوداني في ارتباط وثيق مع النظام الرأسمالي العالمي.
كما كان مجموع الواردات والصادرات تشكل 40% من اجمالي الناتج القومي ، هذا اضافة لتصدير الفائض الاقتصادي للخارج فعلي سبيل المثال في الفترة: 1947 – 1950م ، كانت ارباح شركة السودان الزراعية “مشروع الجزيرة” اكثر من 9,5 مليون جنية استرليني ، تم تحويلها الي خارج البلاد.
كما كانت الصناعة تشكل 9% من اجمالي الناتج القومي ، واجهض المستعمر أي محاولات لقيام صناعة حرفية وطنية ، كما تم تدمير صناعة النسيج والأحذية التي كانت موجودة خلال فترة المهدية، بعد أن غزت الأقمشة والأحذية الرأسمالية المستوردة السوق السوداني.
وكان نمط التنمية الاستعماري الذي فرضه المستعمر يحمل كل سمات ومؤشرات التخلف التي يمكن تلخيصها في الآتي:
· 90% من السكان يعيشون في القطاع التقليدي.
· قطاع تقليدي يساهم ب56,6% من اجمالي الناتج القومي.
· القطاع الزراعي يساهم يساهم ب61% من تكوين الناتج المحلي.
· ضعف ميزانية الصحة والتعليم، تتراوح بين(4- 6%).
· كان دخل الفرد 27 جنية مصري.
· اقتصاد غير مترابط ومفكك داخليا ومتوجه خارجيا.
· تنمية غير متوازنة بين أقاليم السودان المختلفة.
وبعد الاستقلال استمر هذا الوضع، وتم اعادة إنتاج التخلف واشتدت التبعية للعالم الخارجي أو التوجه الخارجي للاقتصاد السوداني كما في :
– ديون بلغت 62 مليار دولار ، عجز غذائي ( مجاعات) ، حروب أهلية ، تصنيع فاشل ، اشتداد حدة الفقر حتي اصبح اكثر من65% من السودانيين يعيشون تحت خط الفقر.
– استحواذ شركات الجيش والأمن والجنجويد والشرطة وميزانية الأمن والدفاع ، والصرف علي مليشيات الجنجويد وجيوش حركات جوبا علي أكثر من 90% من ميزانية الدولة .
– انهيار القطاعين الزراعي والصناعي وانهيار خدمات التعليم والصحة ، وتفاقم التدهور الاقتصادي والمعيشي والأمني بعد انقلاب 25 أكتوبر ووقف المساعدات الخارجية.
– انهيار القيم والاخلاق.
-اصبحت البلاد معتمدة علي سلعة واحدة : الذهب الذي يتم تهريب حوالي 80% من عائده للخارج ، بينما يعيش شعب السودان المسغبة والفقر والجوع ، ويعاني من ثقل الضرائب والجبايات التي فرضها وزير المالية جبريلة ، ولم يتم الاستفادة من عائدات الذهب والمحاصيل النقدية الأخري والماشية التي يتم تهريبها ، في دعم الصناعة والزراعة والتعليم والصحة والخدمات .. الخ. ( نواصل)