التستر على الفاعل الخفي في حريق النيل الأزرق بفضيحة للجيش!!

0 77
كتبت: رشا عوض
.
منذ شهر يوليو الماضي وإقليم النيل الأزرق يعاني من صراع دموي بلغت حصيلته حتى الآن 309 من القتلى 500 جريح حسب التقديرات الرسمية، فيما أعلنت الأمم المتحدة عن نزوح أكثر من 31 الف شخص!
هذا الصراع تصدر وسائل الإعلام المحلية والعالمية تحت عنوان الاقتتال القبلي او الاشتباكات بين قبيلتي الهوسا من جهة والهمج والبرتا من جهة اخرى، أو في منحى آخر أكثر خطورة تتحدث بعض الجهات الاعتبارية والسياسية عن الصراع بين السكان الأصليين (ما يعرف بقبائل السلطنة، اي السلطنة الزرقاء) والوافدين في إشارة الى مكون الهوسا.
وقد طالب أحد القيادات الأهلية لمن يسمون أنفسهم “السكان الأصليين” بتجريد قبائل الهوسا من الرقم الوطني وطردهم من الإقليم دون ان تحرك الحكومة ساكنا رغم ان مسرح هذا الحدث كان أمام مقرها الرسمي في الدمازين!
تطورت الأزمة في الاسبوع الاخير من أكتوبر الماضي
بإعلان الحكومة عن كسر مخزن الدفاع الجوي بالدمازين ونهب الأسلحة التي بداخله، ووقوع تبادل لإطلاق النيران بأحد أحياء الدمازين، فيما تصاعدت أصوات الذخيرة والرصاص الحي وسلاح الدوشكا داخل المدينة، حسب بيان لجان المقاومة في الدمازين.
فضيحة!!
الإعلان عن سرقة الأسلحة من مخازن الجيش الهدف منه إبعاد شبهة التواطؤ من جهات سياسية مع تأجيج الصراع والعنف في الإقليم، إذ ان وجود الأسلحة النارية والدوشكات في أيدي أحد أطراف الصراع هو علامة استفهام كبيرة تحاصر السلطات وتحديدا القوات النظامية! وبدلا من ان تتحرى قيادات القوات النظامية بحزم عن كيفية وصول هذه الاسلحة الى مواطنين في إقليم ملتهب بررت الامر بأن مخزن قوات الدفاع الجوي تم كسره ونهبه! وهذه فضيحة! فالجيش في الدول المحترمة هو المؤسسة التي عبرها تحتكر الدولة استخدام العنف، والآن الدولة السودانية محكومة عسكريا وبمنطق الدكتاتورية العسكرية يجب أن تكون وظيفة احتكار العنف للجيش معضوضا عليها بالنواجذ! فكيف تسرق مخازن الجيش الذي استولى على السلطة بالقوة منذ عام ومن مبررات انقلابه التي اوردها خطاب قائده عبد الفتاح البرهان “تحسين معاش الناس وتوفير الأمن والطمأنينة لهم”!!
هناك شك كبير في “رواية سرقة الأسلحة من مخزن الجيش” التي تهدف للتغطية على الحقيقة المرة وهي ان هناك عناصر في القوات النظامية ومن ورائها جهات سياسية في داخل الدولة وخارجها ضالعة في إشعال حريق النيل الازرق وهي وراء تسريب الأسلحة الثقيلة للمتقاتلين!
هذه الجريمة ليست جديدة ، فقد تكررت في دارفور واحدثت نقلات نوعية في النزاعات القبلية التي كانت تتم بالعصي والسكاكين ووجود السلاح الناري فيها كان محدودا ونادرا، إلا انها في عهد الإنقاذ أصبحت معارك بالاسلحة النارية وأحيانا تدخل العربات المدرعة والمدافع والدوشكات في نزاعات قبلية! ويبدو ان الأمور في النيل الأزرق لو لم يتم تداركها بحزم وبسرعة ستمضي في ذات اتجاه دارفور.
والدليل على وجود فاعل سياسي خفي في احداث النيل الأزرق لا ينحصر في تسليح المتصارعين بل يدل عليه تقاعس القوات النظامية عن القيام بواجبها في حماية المواطنين وحفظ الامن واتخاذ الاجراءات الاحترازية والاستباقية للاشتباكات التي سبقتها خطابات كراهية وعنصرية وتحريض ، فلم يكن الامر مباغتا حتى تقف القوات النظامية عاجزة لهذا الحد!! فالمواطنون هناك اشتكوا مر الشكوى من موقف المتفرج الذي وقفته السلطات من مأساتهم! وقد تكرر ذات الأمر(سلبية القوات النظامية في الدفاع عن المواطنيين أثناء الاشتباكات الأهلية واحيانا مشاركتها في تأجيج النزاع) تكرر في ولايات دارفور وكسلا والقضارف وبورسودان وجنوب كردفان أثناء الفترة الانتقالية وكأنما هناك عمل منهجي لإشعال البلاد من أطرافها لاهداف سياسية او تمهيدا لتقسيمها الى دويلات.
أصابع النظام البائد
سياسة “فرق تسد” التي طبقها النظام الاسلاموي في أبشع صورة ممكنة جعلت اقاليم السودان ولا سيما التي اندلع فيها تمرد مسلح مسرحا للمفاصلات الإثنية والقبلية، وذلك عبر استمالة مكونات بعينها للسلطة وتمليكها المال والنفوذ والسلاح على خلفية انها حاضنة اجتماعية للمشروع الإسلاموي، وفي المقابل استبعاد مكونات أخرى على اساس انها حاضنة التمرد او ان ولاءها السياسي للمعارضة وليس للاسلامويين. وفي الغالب يتطور الصراع الإثني والقبلي المصنوع لاهداف سياسية في اتجاهات عديدة إذ يكتسب ديناميكية خاصة، خصوصا عندما ينقسم صانعوه فيما بينهم او تتغيير طبيعة الصراع، إذ يظل استخدام كرت الإثنية والقبيلة أداة للصراع مع اختلافات في التفاصيل والاهداف والحجج.
بعد ثورة ديسمبر التي أطاحت برأس نظام الإنقاذ بينما بقي الى حد كبير نظام الدولة على حاله ولا سيما في الأجهزة الأمنية والعسكرية والاجهزة العدلية والخدمة المدنية، والأخطر من كل ذلك بقيت اختراقات الاسلامويين للتحالفات والاحزاب السياسية بما فيها تلك التي أدارت الفترة الانتقالية، وقد تزاوج مع اختراقات الاسلامويين اختراقات إقليمية ودولية، هذا الاختراق المزدوج من نتائجه الخلل البائن والاخطاء الكارثية التي ارتكبتها الحكومة الانتقالية قبل انقلاب 25 اكتوبر 2021 والتي يصعب تبريرها بمنطق المصلحة الوطنية وعلى رأسها اتفاق جوبا للسلام الذي له صلة وثيقة بما يدور في إقليم النيل الأزرق ودارفور وشرق السودان.
فهذه الاتفاقية تم توقيعها مع حركات مهزومة عسكريا منذ عهد المخلوع، وخفيفة الوزن السياسي ومحدودة القاعدة الاجتماعية، ورغم ذلك تم تنصيب هذه الحركات على رأس أقاليم كبيرة ومتنوعة إثنيا وثقافيا وسياسيا، وأصبح قادة هذه الحركات متحكمين تماما في حصة هذه الاقاليم من السلطة والثروة المنصوص عليها في الاتفاقية، ونظرا لأن العقل السياسي لقادة هذه الحركات المسلحة مطابق لعقل الإنقاذ السياسي في أسوأ خصائصه: الانغلاق الإثني والفساد والشراهة في احتكار السلطة والثروة، فقد تعاملوا مع مكاسب الاتفاقية كغنائم شخصية لهم ولأقربائهم ومحاسيبهم، فتحولت كل حركة الى “مؤتمر وطني صغير”!! يبحث عن حاضنة سياسية مصنوعة! ففي إقليم النيل الأزرق استولى مالك عقار على منصب سيادي ونصب ابن اخته احمد العمدة بادي حاكما للإقليم مع العلم ان مالك عقار مجرد فصيل صغير منشق عن الحركة الشعبية لتحرير السودان شمال ! لذلك سعى عقار لتحالفات مع الهوسا لتوسيع قاعدته السياسية التي انحسرت كثيرا بعد انقسامه عن الحركة الشعبية.
غياب عقلية بناة الأمم
إقليم النيل الأزرق غني بالموارد الطبيعية والثروات المعدنية، وهو إقليم حدودي وتنشط فيه استخبارات دول طامعة في موارد البلاد، ولذلك يجب تحصينه بالمحافظة على نسيجه الاجتماعي والاهتمام بالتنمية البشرية والاقتصادية وصناعة جسور الترابط بين سكانه فيما بينهم وبين سكانه وكل سكان السودان، ولكن الذي حدث ويحدث الآن هو الاستثمار السياسي في الفتن لمصالح سياسية صغيرة! وسبب ذلك هو غياب القيادات المؤهلة لبناء الامة المتعايشة بسلام وتأسيس الدولة الوطنية واتخاذ كل التدابير لحماية وحدتها والحفاظ على تنوعها ، فقادة الإنقاذ الذين حكموا السودان ثلاثين عاما(قرابة نصف عمر الاستقلال) بحكم ايدولوجيتهم الوطن لا قيمة له ويجب ان يكون خادما للآيدولوجيا او فليذهب الى الجحيم! أما الحركات المسلحة فعديمة الأفق القومي وغارقة في المفاصلات العرقية والقبلية بلا بصيرة سياسية او منهج تنموي لصالح المهمشين الذين تدعي تمثيلهم، والأحزاب التقليدية التي حكمت بعد الاستقلال فشلت في اجتراح حلول ناضجة لمشاكل الأقاليم المهمشة في سياق دولة ديمقراطية فيدرالية.
الآن البلاد تحت وطأة انقلاب عسكري فاقد للوطنية ومستخف بالأمن القومي لدرجة إغلاق الميناء الرئيسي للبلاد في سياق الصراع على السلطة! ولدرجة تهريب اهم مورد اقتصادي في البلاد عبر مطار الخرطوم والقواعد العسكرية في بورسودان! وما خفي أعظم من تلاعب بمصير الوطن وشعبه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.