تهافت جهود رفض العلمانية(1_2)

0 128

كتب: د. محمد يوسف أحمد المصطفى

.

تزدحم الساحة السودانية راهناً بقدر كبير من الآراء والأفكار المختلفة و المتباينة حول مسألة “طبيعة الدولة السودانية”. تلك الدولة التي ينبغي أن تتناسب مع قامة الوطن / السودان الذي ما انفك الكل يتعهد بأنه سيسهم في بنائه وفقاً لهتاف جماهير الشعب الثائر: ” حنبنيهو البنحلم بيه يوماتي “. و لا ريب أن احتدام وتعمُق هذا التبادل العلني للرؤى المختلفة و المتباينة، و تكثُف المعالجات النظرية و الاجرائية المتفاوتة ينبغي أن يكون محل ترحاب و احتفاء من كل ممن يعبأ بمصير الوطن ومستقبله، و تقض مضجعه تداعيات الأزمات المتلاحقة التي تكاد تعصف بتماسكه و تهدد بجدية وجوده و استدامته كوطن موحد آمن يسع الجميع متزيناً بتنوع ثقافاته، و مترعاً بتعدد جماعاته الاجتماعية و السياسية و الجهوية و الدينية و العرقية و الثقافية، و مفعماً بوعود تجدده و نهوضه و تقدمه.

في تقديري أته لا يجوز مطلقاً التغافل عن حقيقة التحول الكبير الذي يحدث بالسودان نتيجة للهبة الشعبية الثورية الجبارة (ديسمبر 2018) التي تحملت أعباء فعالياتها و تضحياتها أقسام واسعة من بنات و أبناء الشعب البسطاء، و سدد الشباب الثوري و الكنداكات الجسورات، على وجه الخصوص، استحقاقاتها الباهظة عرقاً و دمعاً و دماً و جراحاً و أرواحاً. حيث ترتب على هذه الهبة الثورية تصدُع و انهيار ركائز هامة في بنيان النظام السياسي الانقاذي “الاسلاموي” الهالك، بينما ظلت بقية مُعتبرة من ركائزه العسكرية والقانونية و المؤسساتية قائمة تنتظر الاقتلاع و الهدم و الازالة. هذا التحول الجبارهو الذي أتاح للجميع هامشاً واسعاً من الحرية و الفرص لتبادل الرؤى حول الاشكاليات الوجودية للسودان بأمل اجتراح صيغة متفق عليها تُطرح كاجابات منطقية لتلك الاشكاليات. لا مندوحة من انجاز ذلك بأعجل ما يكون، على الأقل، لتستريح شعوبنا من رهق الاقتتال و التنازع و تنصرف الى مهام أسمى تتجسد في تحقيق النهضة التنموية الشاملة المستدامة بما يضمن حداً لائقاً من الرفاه و الدعة و الطمأنينة و الكرامة و الحرية لكافة مواطني البلاد على أرضية صلبة من العدالة و المساواة المطلقة.

و يبدو أن علينا أن نستدعي قدراً مهولاً من مفردات التاريخ المعاصر للواقع السياسي الراهن في السودان من أجل أن نُدلل على مدى الاخفاق المكلف و الفشل المرير الذي طبع محاولات النخب السياسية التي هيمنت على الساحة و سيطرت على أزمٌة الأمور في الدولة السودانية “الوطنية” في صياغة الاجابات الصائبة على تلكم الاشكاليات. فهذه النخب تعاطت مع الطبيعة التعددية في السودان بوصفها خطراً يشكل مصدراً للتوتر و أرضية للصراعات و النزاعات و بالتالي تشكل مهددا أمنياً على كيان المجتمع و الدولة، عوضاً عن التعامل معها، كما تقتضي الحكمة ويستلزم الرشد، كدلالة على الثراء و ساحة للتلاقح و مصدراً للازدهار. و لذلك تبنت تلك النخب مشروعها البائس المرتكز على الغاء هذه الطبيعة التعددية و محو القوام المتنوع للمجتمع السوداني و التجفيف القسري لمصادر تعدده. وتسلحت هذه النخب بأداتين في تنفيذ ما أضمرته من تصورات لاعادة صياغة المجتمع السوداني ليتوافق مع المشروع البائس والمفتقر الي الحد الأدنى من العقلانية: تلك الأداتين تتمثلان في الممحاة (الاستيكة) لكشط و محو كل ما لا يتوافق مع ما يعشعش في مخيلتهم المعطوبة سواء كان ذلك لوناً أو معتقداً أو ثقافة أو عرقاً،، و ان تعذر ذلك لأي أسباب، يتم استخدام الأداة الثانية وهي المقص لاستئصال و ازالة ما يستعضي على المحو. و في هذا السياق يستطيع المرء أن يورد ويشير الى العديد من السياسات “الرسمية” التي تم تطبيقها فعلياً بغرض تحقيق هدف الالغاء و الامحاء و الازالة و التجفيف. في هذا الصدد نشير اجمالاً الى:

الفرض الجزافي للهوية “العربية” على السودان بواسطة أول حكومة “وطنية” بُعيد نيل الاستقلال كما تجسد في الانضمام العجول و غير المتبصر الى جامعة الدول العربية في تجاهل مهين مفتقر لقواعد المنطق الحصيف لهويات كل المكونات السودانية غير العربية.
الاعتماد التعسفي للغة العربية كلغة رسمية للدولة بالرغم من تواجد أكثر من 150 لغة حية أخرى يتحدثها السواد الأعظم من السودانيين.
ثم مشروع الأسلمة و التعريب المتعسف الذي فرضته ديكتاتورية نوفمبر كما تجلى في سياسة طردها غير المشروع للارساليات المسيحية و تحريم أنشطتها الدعوية و خدماتها التعليمية و التربوية.

ترادف ذلك مع تبني و تنظيم الدولة الرسمي لعمليات التبشير الاسلامي مقترناً مع فرض اللغة العربية في النظام التعليمي العام، و تلى ذلك فرض التربية الاسلامية كمادة اجبارية شرطية لنيل الشهادة السودانية المدرسية خلال فترة الحكم الذي أعقب ثورة أكتوبر، ثم فرض قوانين سبتمبر الدينية و اكراه كافة الناس على التقيد بها خلال حكم نميري الفاشي الاستبدادي، و تتوجت هذه المجهودات الغبية بفرض ديكتاتورية الانقاذ الفاسدة لحزمة واسعة من القوانين و الآليات و المؤسسات ذات الطابع الديني الصريح.

و أخيراًالفصل المستهتر لجنوب السودان كتجسيد مر لاعمال أدلة المقص!!!
اؤلئك الذين يحاجون الآن من سدنة المشروع الاسلاموعروبي في جدوى طرح الحركة الشعبية لحق شعبنا في اشتراع طريقة بديلة و مختلفة من أجل مقاربة و حل اشكاليات التعدد و التنوع في السودان، يحق لنا أن نعيب عليهم تغاضيهم و سكوتهم غير المبرر عن تقويم تلك التجارب الفاشلة (الاسلاموعروبية) التي لم تنتج الا مزيداً من التفكك و التوتر و الحروب و الدماء و التشظي. و ذلك لأن مجرد اقدامهم على هذه العملية التقويمية (ان حدث) ينهض في حد ذاته كدليل على صدق نيتهم في صناعة قطيعة معرفية و مبدئية مع الجوانب التي يدعون رفضهم و استنكارهم لها في التجربة “الحضارية” الفاشلة!!! و الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال في المقابل تطرح بقناعة تامة بديلاً عقلانياً و منطقياً يقوم بداية على رفض و ادانة كافة مفردات “المشروع الحضاري” الفاشل، و من ثم يركز على تجفيف منابعه الفكرية التي ما فتئت ترفد ساحة الوطن ببواعث الغبن و مسببات الاقتتال. بصورة مباشرة؛ تدعو الحركة الشعبية الجميع لمغادرة محطة الدولة الدينية بكافة أشكالها و مسمياتها وتجلياتها، و ذلك لاخفاق هذه الدولة في ضمان حرية و كرامة الانسان من حيث هو انسان بغض النظر عن مميزاته التكوينية الأخرى كالنوع و العرق و اللون و الاعتقاد. خاصة و أن الوقائع الماثلة تشير بقوة الى عجز و فشل المدافعين عن الدولة الدينية فشلاً بيناً في تسويقها كنظام عصري متسق و متصالح مع حقائق الكون المعاصرة أو، على الأقل، غير متصادم مع المبادئ الأساسية لحقوق الانسان المعاصر. نقول بذلك لأن من حق الشعب السوداني أن يسمع و يرى تفسيرات موضوعية و مقنعة مبنية على حزمة متماسكة من الأفكار و الرؤى لمعالجة الاشكاليات المفهومية و الاجرائية المتصلة بما رسخته التجربة و أكدته المواقف الموثقة فيما يتصل بجوانب مهمة ومركزية بمبادئ حرية وكرامة الانسان:

كيف لدعاة الدولة الدينية أن يبرروا، نظرياً و اجرائياً، الادعاء ب “أفضليتهم” على غيرهم من البشر السودانيين الذين يدينون بمعتقدات مختلفة في ظل مبدأ المساواة المطلقة لكافة البشر الذي يكرسه الاعلان العالمي العصري لحقوق الانسان؟؟؟ ورد في المادة الأولى لاعلان حقوق الانسان أنه ( ﻳﻮﻟﺪ ﲨﻴﻊ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺃﺣﺮﺍﺭﺍﹰ ﻣﺘﺴﺎﻭﻳﻦ ﰲ ﺍﻟﻜﺮﺍﻣﺔ ﻭﺍﳊﻘﻮﻕ، ﻭﻗﺪ ﻭﻫﺒﻮﺍ ﻋﻘﻼﹰ ﻭﺿﻤﲑﺍﹰﻭﻋﻠﻴﻬﻢ ﺃﻥ ﻳﻌﺎﻣﻞ ﺑﻌﻀﻬﻢ ﺑﻌﻀﺎﹰ ﺑﺮﻭﺡ ﺍﻹﺧﺎﺀ). و المعلوم أن أتباع أي معتقد ديني –أيا كان- يؤمنون بعمق في “أفضلية” معتقدهم الديني و صوابيته المطلقة و بالتالي أفضليتهم على من سواهم من البشر أتباع المعتقدات الأخري. ( اليهود في اسرائيل و الشيعة في ايران و السنة في الخليج و الأرثوذكس في أثيوبيا و حتي الهندوس في الهند). و الاشكالية الاجتماعية هنا تكمن في مقدرة المجتمع على خلق السياق المجتمعي الذي يوفر السياجات الدستورية اللازمة لكبح جماح أي فئة تحاول فرض “أفضليتها” على غيرها بمسوغات دينية أو غيرها من المسوغات المقدسة.

كيف لهؤلاء القوم أن يقنعوا شعبا يعيش على ثرى وطن واحد و في اطار فضاء سيادي واحد بامكانية ومعقولية تعدد أنماط القانون العام بحيث يتحاكم أعضاء المجتمع الواحد لعدد من القوانين المختلفة و المتباينة وفقاً لعقيدة كل واحد منهم،،، و كيف يتوافق ذلك مع مبدأ المواطنة المتساوية و تحريم التمييز الوارد في اعلان الحقوق الانساني العصري؟؟ تؤكد المادة السابعة في الاعلان أن ( ﻛﻞ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺳﻮﺍﺳﻴﺔ ﺃﻣﺎﻡ ﺍﻟﻘﺎﻧﻮﻥ ﻭﳍﻢ ﺍﳊﻖ ﰲ ﺍﻟﺘﻤﺘﻊ بحماية ﻣﺘﻜﺎﻓﺌﺔ ﻋﻨﻪ ﺩﻭﻥ ﺃﻳﺔ ﺗﻔﺮﻗﺔ، ﻛﻤﺎ ﺃﻥ ﳍﻢ ﲨﻴﻌﺎ ﺍﳊﻖ ﰲ ﲪﺎﻳﺔ ﻣﺘﺴﺎﻭﻳﺔ ﺿﺪ ﺃﻱ تمييز ﳜﻞ ﺑﻬﺬﺍ ﺍﻹﻋﻼﻥ ﻭﺿﺪ ﺃﻱ ﲢﺮﻳﺾ ﻋﻠﻰ ﲤﻴﻴﺰ ﻛﻬﺬﺍ).
كيف لهم أن يقنعوا الناس بأحقية “رجال الدين” دون سواهم من البشر في ممارسة الوصاية على ارادة الشعب ومعتقداتهم و تنصيب أنفسهم كمشرعين بالرغم من أن أحداً لم ينتخبهم؟ و المعلوم أن أي نظام ديني يقوم على السيادة الحصرية ل “رجال الدين” في التأويل و الافتاء باسم الله الخالق القيوم دون غيرهم من المواطنين المؤمنين!! كيف يتسق هذا مع مبدأ حق الشعب “كل الشعب” في أن يكون، عبر الآليات الديمقراطية، هو المصدر الوحيد و الحصري لكل السلطات بما فيها سلطة التشريع؟؟؟ ألا يعني ذلك اجبار المواطنين من غير رجال الدين على الاذعان لأحكام رجال الدين و الانصياع ولو كانوا مكرهين لفتاوي المؤسسات الدينية المحتكرة لسلطة الحديث باسم الدين؟؟ كيف بالله عليكم توفيق هذه الرؤى البالية و الرجعية مع توق ثوار شعبنا للانعتاق من أي سطوة غير منتخبة بارادتهم و وفقاً لمشيئتهم الحرة (التحول الديمقراطي) ؟؟!

عجز سدنة الدولة الدينية و فشلهم البين في تنقية دعواهم من أدران و موبقات التجربة العملية لفرض الدولة الدينية في السودان ،خاصة خلال عقود استبداد نظام الانقاذ الظلامي الثلاث، اجبرهم على التخلي “علانية” عن المناداة الصريحة بالدولة الدينية على النسخة الانقاذية البغيضة التي بات من العسير، ان لم يكن المستحيل، الدعوة لاعادة انتاجها أو تسويقها وسط شرائح واسعة من المجتمع السوداني التي خبرت بالتجربة العملية المعاني الحقيقية و الملموسة لمفهوم “المتاجرة بالدين”، و أدمى السيرعلى دربها المتوحش أقدام الملايين من بنات و ابناء السودان. تلك المتاجرة بالدين التي لم تفلح في سوى فضح و تعرية نمط سلوكيات من يسمون أنفسهم برجال الدين. الممارسة المعطونة بالفساد و الموغلة في الاستهانة بكرامة البشر و الازدراء بقيم الطهارة و عدم التورع و الاستنكاف عن التعاطي مع المال الحرام و السحت المذموم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.