التاج مكي: ألف سلامة، فالمرض زكاة البدن

0 151

كتب: صلاح شعيب

.

خرج هذا الأسبوع من المستشفى صديقنا الأثير الفنان التاج مكي بعد أن لازمته عثرة – بعد أداء صلاة الصبح – كادت أن تودي بحياته لولا لطف الله. وتاج أحد تجليات تجوال السودانيين في بيئات بلادهم المتعددة حينما كان الترحال أمراً معهوداً، بشكل عام، بينما تصقل الخدمة المدنية موظفيها بتنقلاتها غير المستقرة في سهول، ووهاد، البلاد، بشكل خاص.
فالتاج ينتمي لأكثر من مدينة حتى إنه لا يُرجع بالحسبة الجهوية إلى مسقط رأس الأجداد أكثر من إرجاع انتمائه الغنائي إلى كسلا التي شهدت بداياته. جاءها بعد الميلاد في النيل الأبيض، حيث هناك أكمل مرحلتي المتوسط، وتواصل تعليمه في أمدرمان. وذلك التجوال في فيافي، وحواضر، السودان هو شأن أجداد، وآباء، العديد من المبدعين خصوصاً. ومن هنا توفرنا على هذا التنوع داخل التجربة الفنية للشعراء، والفنانين، والموسيقيين. فمنهم من ينتمي جغرافياً إلى الشمالية، ولكنه نشأ في الرهد أبو دكنه، وكتب أجمل الأغنيات الكردفانية. وأحدهم من دارفور، أو الجنوب، ولكن مواهبه تفتحت في بورتسودان، أو مدني. بل تجد أن محمد عثمان كجراي كتب أجمل قصائده في جنوب السودان. وهناك الجابري الذي نشأ في الجزيرة فصار غرويد حي العرب الذي يعطي للأداء رونقا، وبهاء. ولا ننسى وردي الذي نشأ في صواردة، ولكنه تشرب أغنية أمدرمان، وبذ بنغمه عمالقة المدينة.
وهكذا دواليك، فكثيرون أمثال فنانا تاج السر مكي عبد الحليم بن عوف الذي يتحدر أهله من الشمالية. ولكنه ولد في كوستي عام 1953، ودرس المرحلة الابتدائية بها في مدرسة جبور بالمدينة. وفي عام 1965 انتقل مع عمه إلى أم درمان ليدرس المرحلة المتوسطة فيها، وتخرج عام 1968، وفي هذه الفترة لحن ثلاث أغنيات من كلمات الشاعر مرتضى عبدالرحيم صباحي، وهي “خلاص مفارق كسلا”، و”نور الليالي”، و”صبرنا كثير على الأشواق.”
بعد ذلك التحق بمعهد البريد والبرق بمدينة أمدرمان، وتخرج فيه عام 1970، وبعد تخرجه عمل موظفا في مصلحة البرق والبريد بالخرطوم ثم انتقل إلى كسلا.
هناك في درة الشرق كان المناخ الفني مزدهراً طوال عقد السبعينات. فالمدينة بمزيجها الإثني، والفني، أثرت فيه كثيراً. فشهد مسرح تاجوج العتيق انطلاق عدد من الأصوات الفنية، وكانت تنتشر الأندية الثقافية في أحياء المدينة فيما تشع الطاقة الموسيقية لفرقها في نادي التاكا، والميرغني.
ويتذكر الناس أن المدينة رفدت إذاعة أمدرمان بالفنانين إبراهيم حسين، والفاتح كسلاوي، وعمر الشاعر، وأنس العاقب الذي بدأ مغنياً ثم تفرغ للتلحين، وكذلك عبد العظيم حركة.
وهناك شهدت المدينة بدايات الفنانين كمال ترباس، والبعيو، وقدمت للأوركسترا عازف الأكورديون الفاتح الهادي. وهناك كثيرون من المبدعين في مجالات ثقافية، وعلى المستوى الإبداعي جاء أبناؤها الصاغ محمود أبو بكر، وإسحاق الحلنقي، وجرتلي، وكجراي، وعبد الوهاب هلاوي ليبدعوا.
في هذه البيئة الفنية الخصبة عاصر التاج عدداً من الفرق الموسيقية التابعة للمصالح الحكومية، والتي من بينها فرقة السكة الحديد، وفرقة مصنع البصل التي تهتمُ بالغناء الشعبي. وفي كسلا قام التاج مكي بغناء أول عمل من كلماته وألحانه، وهي “أحلى يوم”. وفي نفس العام قام بتسجيل أغنية “حبيت عشانك كسلا” على أسطوانات شركة فوتوفون للإنتاج الفني، وأيضا قام بتسجيلها في الإذاعة السودانية. وفي عام 1971م قدم “سيد الكل” و”إرادة شعب”.
وبحلول عام 1972م سافر إلى العاصمة الخرطوم ليلتحق بمعهد الموسيقى والمسرح، إذ قدم في هذا العام “النظارة” و”أهل المحبة” و”نقول شنو” و”اسمك تينة” و”شفت عيون بريدها” و”شالوا القطار”.
وفي عام 1973 سافر التاج مكي لتسجيل أغنيتين “خلاص مفارق كسلا” و”فايت مروح وين” لصالح إذاعة ال BBC البريطانية، وكان قد التقى في هذه الرحلة بالفنان سيد خليفة، والفنان أبو داؤد محمد داؤود، أيضا قدم في نفس العام “العنبة”، وفي عام 1974م قدم “وده كلام”.
في عام 1975م قدم “عيد الميلاد- يا روح بابا” و”قبلة الأحرار” و”القاش” و”ما بتقدر” وفي عام 1976 قدم “بريدك” و”كسلا”.
نشد التاج تثقيف نفسه موسيقيا لتطوير تجربته الغنائية، وفي عام 1977م تخرج من معهد الموسيقى والمسرح بالخرطوم، وهي الفترة التي شهدت ذروة نشاطه الفني، وذاع اسمه بصوته الطروب، وألحانه الجميله المشبعة بالنغم بكلمات تجرى مجرى الألسن.
وفي ملابسات انفتاح المبدعين على الهجرة التي تكثفت مع حلول منتصف السبعينات غادرنا الفنان إلى هجرته المديدة التي امتدت إلى يومنا هذا. سافر عام 1978م إلى دولة الإمارات العربية المتحدة ليعمل أستاذاً للتربية الموسيقية في مدارس الثقافة العسكرية، ثم معلما في معهد الدراسات الفنية، ثم انتقل إلى معهد التدريب المهني ليعمل معلماً للموسيقى، ولم تتسن له العودة إلى الوطن للاستقرار في فترة طويلة عدا في الإجازات.
لم يتوقف عطاء التاج طوال غربته. ففي عام 1979م قام بتلحين أغنية “ما بتقدر تاني” للشاعر إسحاق الحلنقي، وغناها في الإذاعة السودانية، وقدم في نفس العام “قطعوا أخبارهم”، و”يا شمس بالله غيبي”، و”بعد المسافة غليت الصدف”، و”يُمّة”
تعاونه الثنائي المميز كان مع الشاعر تاج السر أبو العائلة في أكثر من 25 عملا غنائيا. إذ بدأ هذا التعاون بينهما منذ العام 2000 عبر اعمال نذكر منها “باب بيتنا” و”ما تعودي العين البكاء”، و”مالكني حب المصطفى” و”أوبريت نحن السودان”، و”احتياج”، و”غرد لينا يا كروان”. وقدم في عام 2004 “سامحتك”، و”يا سودان سلام عليك”، و”مشاوير الهوى الغلاب”.
بجانب الأستاذ أبو العائلة تعاون مع الشعراء إسحق الحلنقي، وعبد الوهاب هلاوي عبر “في ناس شافوك”، وسودانا خير”. كذلك تعامل شعريا مع الأساتذة مرتضى صباحي، ومحمد عبدالله برقاوي الذي كتب له “لو تعرفي”، ومشاوير الهوى، وعبد اللطيف شريف، واللواء جلال الدين حسن حمدون، وعلي سلطان، واللواء عبدالله أبو قرون، والدكتور محمد عثمان جرتلي عبر “أنتِ حرة”، و”حواء والدة”، و”بنفتش عليكم”، و”ما قيمة الدنيا إذا لم تلق في الدنيا حبيبا”، وعثمان خالد، وعبد الرحمن مكاوي، ونادر عزيز التوم، والطيب عمر الطيب.
معظم هذه الأعمال الشعرية كانت من نصيبه، غير أنه تعاون مع الملحنين ناجي القدسي، عبداللطيف ود الحاوي، الماحي سليمان.
لدى الفنان التاج مكي عدد من الأبناء والبنات، فهناك سارة وساري وهو فنان وعازف أورج، وأحمد، وهو أيضاً فنان وملحن، وأيمن مكي، وصداح، وسكينة التي تلقب عند الأسرة بأم كلثوم السودان، وسمر، وسلمى.
ربنا يمنح الأستاذ التاج مكي بالغ الصحة والعافية بعد إجراءه عملية الظهر، ونتمنى أن يواصل في مشواره الفني الذي تعدى نصف قرن. وعبر هذه الفترة ارتبط التاج بحضور مميزة، ومواكبة لإثراء الساحة الفنية، وخلق الفرح بالغناء لجموع السودانيين في الخارج. ورغم هجرة التاج الطويلة إلا أنه لم يتغيب عن مواصلة التجديد الفني، وتأكيد حضوره المستدام في الحقل، كواحد من أميز المغنين الذين أنجبتهم فترة السبعينات. ونقول لمبدعنا لك طول السلامة، فالمرض زكاة البدن كما قال الحسن البصري.

.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.