من هو رئيس الوزراء القادم؟
كتب: د. الوليد مادبو
.
يستعرض الناس هذه الايام أسماء لأشخاص يمكن أن يشغلوا خانة رئيس الوزراء، بينما الأولى أن ينصب تفكيرهم في المعايير والمسؤوليات: ما الذي يجب إنجازه والمؤهلات اللازمة لذلك، وما هي خطورة اختيار شخص غير ثوري وليس لديه ثوابت وطنية أو ضوابط أخلاقية (ليس حصراً على المعني الديني أو الفقهي)؟ بل ما هي الجدوى أصلا من خوض التجربة بشخصية ليس لها رؤية تنموية وخبرة تنفيذية؟ أي دروس وعبر تعلمناها من تجربة الثلاث سنين الماضية؟ هل سنختار شخصاً من أجل المصلحة الوطنية (إمكانيته للنهوض بالوطن والتعريف بقيمة المواطنة) أم أن الفئات المعنية (قحت والعسكر) ستختار رئيساً متماهياً مع أطماعهم الشخصية وقدرتهم على التحكم فيه؟ هل يمكن أن تترك مهمة الاختيار إلى لجنة قومية أم إننا سنذهب في ذات المنحى القديم الذي استحكمت فيه الاعتباطية، المزاجية، والاهواء الشخصية؟
السؤال الأخطر: هل لنا دور كسودانيين في اختيار الرئيس أم إنه سيتم اختياره من قبل المحاور الاقليمية والدولية؟ يجب أن لا نخضع في هذا الصدد لابتزاز الدول الغربية التي تتحجج في مرافعاتها بالمعونات واعفاء الديون، فقد ثبت أن فلوس السودانيين المودعة في مصر فقط (٢٥ بليون دولار)، وذلك غير الممتلكات السكنية، تعادل ٥ أضعاف المعونات الموعودة، وأن إعفاء الديون ما هي إلا فرية تطلقها المؤسسات المالية التي تحاول حلنا من دين بدين أخر.
يمكنا الاعتماد على انفسنا بقفل البلاد ثلاث سنوات فقط والتركيز على زيادة الانتاج اذا استطعنا فقط التخلص من المقاطعة الاقتصادية واذا رفع اسمنا من قائمة الارهاب، الامر الذي لم يتحقق حتى الان رغم النهج الدعائي والطرق غير المؤسسية التي اتبعتها حكومة حمدوك والتي افتقرت إلى الشفافية وإلى تقنين سبل المحاسبية (أين الفلوس، من أي مورد أخذت، ولمن سلمت وعبر أي قنوات؟ لا أحد يدري. إنه “المؤسس” وتلك أفانينه!).
للثورية تجليات عديدة، منها ما هو سياسي نضالي يقوم به عادة الحزبيون الملتزمون، فلسفي فكري يؤده الكتاب والاعلاميون، أو عاطفي وجداني نشهده في جبين الشفاتة والكنداكات. وليس مطلوباً من أي شخص أن يجمع بين كل هذه التجليات، لكن من واجب أي شخص يتقدم لمنصب سياسي تنفيذي أن يكون له موقفاً من الفصل العنصري، أو الإبادة الجماعية (خاصة اذا كان الضحايا هو عصبته وأهله!)، التي هزت ضمير المجتمع الانساني، أو انفصال الجنوب الذي أرق مضاجع الوحدويين في نواحي القطر كافة. إن الثقافة هي أخلاق، والأخلاق هي اعتناء بالانسانية.
يوسم أحياناً بعض الافراد بالتهذيب، رغم إنهم يستخدمون هذه الخصلة لأهداف غير نبيلة (غير مهذبة)، كأن يفكر أحدهم في تحقيق مصلحته الخاصة دون النظر إلى المصلحة العامة. ولقد شهدنا وزراء في حكومة حمدوك لاذوا بالصمت ولم يجرئوا على مجرد الشجب للانقلاب، أو أعضاء في مجلس السيادة أصدروا على استحياء بعض البيانات البائسة عديمة الروح والمغزى. وها هم يطلون برؤوسهم بعد أن انجلى الكرب طامحين في تتويج جبنهم وخستهم بأوسمة الصدارة. هكذا دون خجل أو وجل.
بل إن حمدوك نفسه لم ينبس ببنت شفة منذ خروجه من السودان، واذا كان هذا ديدنه، فماذا نتوقع من زملائه “المخضرمين”؟ إن رئيس وزراء متواضع القدرات (وإن يك لديه دكتوراة) سيأتي بوزراء متواضعي القدرات ولن يستطيع إدارتهم وحسن توجيههم، بل إن الاشخاص المتميزين من أنحاء المعمورة كافة سيرفضون التعاون معه من منطلق أن الجراح (الطبيب) من الدرجة الثانية لا يأتي إلا بجراح من الدرجة الثالثة، أمّا الجراح من الدرجة الأولى لا يأتي إلا بجراح من الدرجة الأولى لثقته في نفسه وقدرته على تحمل التصويب اثناء العملية. البلد يحتاج إلى عملية جراحية وإلى جراح عظيم!
إن انجاح التسوية يعتمد في المقام الاول على رغبة الفاعلين السياسيين في توسيع رقعة المشاركة وضم المجموعات التي لها ثقل (جماهيري أو فكري) لا يمكن تجاوزه. إذ لا يمكن الاستهانة بالهامش (خاصة الشرق والغرب)، الريف بعمقه الصوفي والقبلي، لجان المقاومة، الشباب الثائر في الأحياء والطرقات، والمجموعات الأيديولوجية من ذات اليمين أو اليسار، إلى أخره. لا يمكن أن يوصف المعارضين للاتفاق بأنهم مشاغبون؛ دلت التجارب على أن هؤلاء “المشاغبين” لهم قدرة على الفعل السلبي (قفل الطريق ونحوه)، فالأولى أن يستفاد منهم في الفعل الإيجابي. هم أصحاب قضية ولهم نفوذهم السياسي ويتمتعون بأوزان جماهيرية هائلة. اذا كان جريرتهم فقط هي تأييد الانقلاب، فإن قحت ومن بقي منها قد توافقوا الحين مع الانقلابين، فما المشكلة؟
لا تحتاج البلاد إلى أفندي، البلاد تحتاج إلى زعيم قادر على تفهم القضايا ومخاطبة أصحابها من منظور بنائي وليس احتوائي. ولعل هذه هي المعضلة. فالزعامة موهبة (من الهبة) تحتاج إلى ثقل معرفي وسند تاريخي إجتماعي – خاصة في بلادنا – حتى تستطيع تجاوز الواقع ومحدداته المادية مستعينة بالوجدان وركائزه الروحية. نحن الان في مفترق طرق: هنالك طرائق القرون الوسطى التي تمثلت في إغواء الناس بالسلطة والمال وتخويفهم بالسلاح، وهنالك مفهوم الدولة الحديثة الذي يتطلب التزام الدستور، تأدية حقوق الناس وتعريفهم بواجباتهم. هذا هو التحدي الحضاري الذي سنحتاج اجتيازه قريباً نيابياً أو عسكرياً.
ختاماً، أتمنى أن تتحلى الجهات المعنية كافة بالصدقية والتجرد والوطنية في اختيارها لرئيس الوزراء القادم لأن ثمن الإخفاق هذه المرة سيكون باهظاً. يجب أن يمنح الشعب ميزة الاختيار من مجموعة ثلاثية تعرض لمناظرات ولحوارات يديرها نقاد أكفاء فذلك سيكون بمثابة تمرين ديمقراطي يجنب البلاد شر المفاجأت. ليس المطلوب من هذا السيد او تلكم السيدة (رئيس الوزراء أو رئيسة الوزراء) التغلب على الصعاب فقط، إنما أيضاً تدارك الأخطاء التي شابت العملية السياسية التي كللت بامضاء الاتفاق الاطاري.