قوات الدعم السريع في السودان: أزمة هوية، هضربة هوية (2-2)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
قرأت عن مؤتمر صحفي عقدته الدعم السريع لعرض همتها في محاربة تهريب المخدرات والخمور والبشر. وهي مهام للشرطة حصرياً حتى لو استعانت بالدعم السريع وغيره لدهم المهربين. واستغربت لممثل الشرطة يحضر مؤتمراً دعا له من استولى على وظيفته منه وراح يروج ليده الطائلة. وهذا المؤتمر الصحفي بكلمة واحدة إعلان عن الدعم السريع بغرض تطبيعها في الدولة (naturalization) الحديثة فتتجاوز أزمة هويتها الناشبة حيال هذه الدولة ولتغطي عليها بنيل جائزات حقوق الإنسان، وتفريج الناس على كاس العالم وغيرها. فالدعم السريع يتسوق طولاً وعرضاً في الدولة والمجتمع لكي يخترق أزمة هويته طلباً للقبول. وبالطبع معروفة عصاته المدفونة وبانت في أسراه في دارفور ممن خرج أهلهم يحتجون بوقفة في الخرطوم على حجزهم بواسطته.
وهذا مقال آخر في محاولة فهم أزمة هوية الدعم السريع على ضوء أخبار تواترت عنه في الأسبوع قبل الماضي.
انشغلت الأوساط السياسة خلال الأسبوع الماضي بقوات الدعم السريع، التي يقودها الفريق محمد حمدان دقلو “حميدتي” نائب رئيس مجلس السيادة، إثر واقعتين اتصلتا بها. وأثارت الواقعتان من جديد حقيقة أزمة الهوية التي تعاني منها هذه القوات. وهي أزمة من جهة غرابتها في منظومة الدولة الحديثة القائمة في السودان مهما قلنا عنها. غير أنه إن صدقت غرابتها على الدولة الحديثة فلن تصدق غرابتها عن المجتمع السوداني وسياساته كما تعتقد النخب السياسة. خلافاً لذلك، فهي ليست بعض حقائق هذا المجتمع الوثقي فحسب، بل الدالة أيضاً على أزمته في دولته الحديثة.
كانت الواقعة الأولى هي ما كشفت عنه صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية” (30 نوفمبر المنصرم) عن حصول الدعم السريع على نظم لتكنلوجيا التصنت صُنعت في أوربا بواسطة شركة انتلكسا المملوكة للاستخباراتي الإسرائيلي السابق تال ديلان.
أما الواقعة الثانية فكان الخطاب الذي القاه الفريق حميدتي في مجمع لرجالات الإدارات الأهلية (القبائلية) وأثار ثائرة أنصار نظام الرئيس السابق البشير. فبجانب أشياء لن تشغلنا هنا قال حميدتي إنه مع التسوية الجارية ومع الشباب الذين يتظاهرون مطالبين بالتغيير والحكم المدني. وقال إنه معهم حتى لو هتفوا ضده والدعم السريع في مثل قولهم “العسكر للثكنات والجنجويد ينحل”. والجنجويد اسم قديم لعصب مثل الدعم السريع سنعرض له لاحقاً. وربما الذي أغضب أنصار النظام القديم جداً على حميدتي قوله إنه لا رجعة لما قبل 2018 وهو عام الثورة على نظام الإنقاذ الذي سقط في إبريل 2019. وسبق لحميدتي أن رفض مبادرة لحل الأزمة السودانية معروفة بمبادرة “الطيب الجد” التي تراص هؤلاء الأنصار من ورائها. كما أبدى تفهمه للدستور الانتقالي الذي وضعته تسييرية نقابة المحامين والذي عليه مدار التسوية الجارية المرفوضة من هؤلاء الأنصار.
أزمة هوية الدعم السريع هي التي من وراء الوقعتين موضوعنا هنا. فهو جيش وقع عليه نظام الإنقاذ في ثنايا الصراع ضد الحركات المسلحة في ولاية دارفور في 2003. فلا تعريف له في الدولة الحديثة لأنه خدمة مسلحة مأجورة لنظام أراد منه أن يقاتل عنه أعداءه بأقل تكلفة. وبانت أزمة هويته في العسر الذي لقاه البشير في تسكينه في هيكل دولته. فتشرد الدعم السريع بين الجيش والأمن والاستخبارات حتى جرت هيكلته في يوليو ٢٠١٧ بقرار من البرلمان أتبعه للقائد الأعلى للقوات المسلحة الذي هو البشير رئيس الجمهورية. وصار الدعم السريع شبه جيش ثان مربكاً ما يزال. ووصف أحدهم القوى النظامية المكونة من الجيش المهني والدعم السريع بالجمل ذي السنامين يستغرب له من لم يتعود إلا على الجمل ذي السنام الواحد. وزاد طين هويته بلة أنه أطاح بحبله السري بالدولة، البشير، فانقلب السحر على الساحر.
ليست نظم التصنت التي ذاع خبرها هي الواقعة الأولى للدعم السريع في سعيه أن يتصل بأسباب الحداثة. فهو أمام تحد أن يكون جيشاً كامل العدة في حداثته ليبقى، أو أن يستعد ليغادر ساحة سياسية لا تعريف له فيها. فإما أن يُعرف نفسه بنفسه أو يخضع للدمج في القوات المسلحة الذي هو أفضل الاقتراحات المتداولة عن مستقبله، وأبغض الحلال عنده. والمال عنده واجد والسوق رحب لمثله. وكثر الحديث عن أنه سعى ويسعي ليتزود بدبابات وطائرات لأنه لن يقوى على الجيش المهني بغير هذين الامكانيتين. وربما كان الضجر من الدعم السريع هو الذي وراء انقلابات غامضة فاشلة تقع هنا وهناك في الجيش، ويجري الترويج لها وكأنها معادية للثورة.
وليس عبثاً أن يقول تقرير “هآرتس” إن نظم التصنت التي حصل عليها الدعم السريع مؤخراً سترجح كفته في أي صراع منتظر مع القوات المسلحة. وإنكار الدعم السريع الخبر باب كبير في أزمة هويته. فواضح أنه لا يقوى على عقد صفقات تحديثه على مرأى ومشهد كما تفعل الجيوش. بل يحتاج لأن “يختلس” التحديث اختلاساً.
وتريد الصفوة السياسة بمختلف أطرافها أن تنفي الدعم السريع عن مجتمعها وسياسته كل في توقيته الخاص. ولا يطرأ لأي منهم أن هذا الجيش خرج علينا من ثقوب حوكمتهم التي لم تطال الريف بإحسان. فأصابته حالة تعرف ب”صدأ الريف”. فلما غبن الدعم قوى الثورة بعد دوره في فض اعتصام القيادة الدموي في 3 يونيو 2019 صرفوه كمرتزقة أجانب من تشاد وسخروا من مؤهلات حميدتي، أو لا مؤهلاته، وسار بين الناس أنه “فريق خلاء” أي أنه لم يكتسب الرتبة عبر سبلها المعروفة.
وأغضبت كلمته أمام زعماء القبائل الأخير أنصار النظام القديم لقوله إن العودة لما قبل ثورة ديسمبر 2018 مجرد أضغاث وجب لأصحابها أن يفيقوا منها. فاستنكر أحدهم على الفريق عبد الفتاح البرهان، رئيس مجلس السيادة، أن يتهدد الإسلاميين في خطاب أخير بالويل الثبور لأنه اتهم حفنة منهم بالعمل السياسي داخل الجيش بنوايا انقلابية بينما لا يرى غضاضة في الدعم السريع الذي هو حالة سياسية منقطعة النظير. ولم يكن هذا وجه اعتراضهم على سياسة هذا الجيش لما انقلب في 25 أكتوبر 2021 على الحكومة الانتقالية التي قامت بعد الثورة وقضت على نظام البشير.
أقصر طريق لفهم أزمة هوية الدعم السريع هو في النظر إليه كظاهرة من حالة “صدأ الريف”. فهو مجتمع شباب بين الرعاة من العرب خاصة تصدعت حياته بالمحل الذي ضرب شمال دارفور وربما تشاد منذ السبعينات. ولم تسعفه الحكومة بالتنمية. وعطل المزارعون أصحاب الدار التبادل المعاشي الذي حكم علاقاتهما تاريخياً مثل إطلاق الرعاة سعيتهم في أرض المزارعين بعد الحصاد مما كان يخفف من ضيق عيشهم. واستشرى السلاح من خرم حرب تشاد علاوة على استثارة القذافي للنعرة العربية في شباب تلك الأنحاء ليستعين بهم في حربه في تشاد. فخرج هؤلاء الشباب ك”همباتة” (ناهبو ماشية يشبهون عادة بصعاليك العرب القدماء) في أول طورهم وشاع عنهم ” أنهم “جنجويد” أي “جن حاقب جيم وراكب جواد”. وصاروا بذلك مسلحين يبحثون عن مخدم. وجاؤوا على غرض الحكومة في ذلك الوقت الذي اندلعت الحرب في دارفور في 2003. فاستأجرتهم لحرب الحركات المسلحة. والباقي تاريخ.
قال علي مزروعي إن الحركات المتطرفة الإسلامية وغير الإسلامية في الريف ليست ضد الحداثة كما يروج قبيل من الصفوة. خلافاً لذلك فهي قد حاضنة بالأحرى، في قوله، لضحايا قلة الحداثة ممن ودوا لو أنهم حصلوا على المزيد منها. ولما لم تطلهم حيث هم خرج الدعم السريع مثلاً من وطأة صدأ الريف بنقصه المريع في الحداثة ليطلبها خلسة كما رأينا. وكانت هذه بعض حيله ليبقى في ميدان سياسي دخله كفاحاً لأنه لم يكن في أقصى منظور من صممه.