الهادي.. انسباب النيل وصوفية الجبل
كتب: فايز السليك
.
للفتى الراحل محمود عبد العزيز، سطوته القوية، وسلطته المعنوية، وحضوره الأنيق؛ وهو أمر يجعل المستمع يظن أن اي اغنية يغنيها هي ملكه، لا ملك فنان غيره.
حين يغني محمود أغنيةً يكتب لها ميلاد جديد بعد أن ينفخ في روحها، يلونها بصوته، ويجملها ويطلقها نصاً مغايراً للنص الأصلي، فيما يتعلق بالتطريب والتلوين.
لكن تلك القدرة النادرة تتراجع حين تلامس مياه النيل الأبيض، يتوقف العنفوان ويبرز الهدوء، ويجلس الفتى محمود تلميذاً في مدرسة بحر ابيض، أو حواراً مطيعاً في حضرة شيخ الجبل.
هناك، وسط عبق أضرحة ( الأولياء) وعشق الصوفية، يضطر الفتى المتمرد محمود، للجلوس متأدباً بأدب الشيوخ، في حضرة من يهوى.
ويصير مثل درويشّ متجول وفق وصف شاعرنا العظيم محمد الفيتوري، ( تعصف به الأشواق، يحدق بلا وجهٍ ويرقص بلا ساق).
هناك، ما بين الجبل والسهل، وما بين ضفاف النهر، يكون الصعب والسهل، حيث أسست عبقرية المكان لمدرسة فنية عظيمة اسمها (( الهادي حامد، او الهادي الجبل).
ومن تلك المدرسة بدأ محمود دراسته، فغنى ( قالو لي سرو)) (( ما اتعودت أخاف من قبلك)، (( اقول أنساك)).حتى مرحلة (( المدينة)) و(( السراب)) و (( بفرح بيها)).
المدرسة الفنية تعني وجود فلسفة ومنهج ووسائل تشكل في محصلتها إضافةً نوعية، وتراكماً من حيث الممارسة والتجربة والنتائج، لذلك لا يمكن ان نسمي كل من غني بأنه صاحب مدرسة؛ ما لم يكن للغناء لوناً مختلفاً ومذاقاً خاصاً، ورؤية وجودية وهدف.
يعتمد إنتاج الغناء على نص مكتوب ( قصيدة غنائية) ونص صوتي. يكتب الشاعر النص المكتوب، ثم يحول الملحن الكلمات الى نص صوتي، عبر تأليف الموسيقى وتوزيعها او مايسمى، او تسمى ( composer ). فالملحن/ة هو الذي يؤلف جملاً موسيقية، ويقدمها نصاً صوتياً مكملاً، او موازياً للنص المكتوب، يأتي بعد ذلك، أي في النهاية دور المؤدي ( المطرب/ الفنان)، ويستخدم صوته لتقديم النص الشعري/ الملحن إلى الجمهور.
يمكن ان يكون الشخص المؤدي هو مؤلف النص الشعري، او الموسيقي، او الاثنين معاً.
لنجاح أي مدرسة لابد من تكامل عناصر العمل الفني من مفردات وألحان وأداء؛ وترابطها لتعطي عملاً متميزاً.
شهد الغناء في السودان عدة مدارس منذ مرحلة الحقيبة، ونهايةً بأغنيات الثقافات غير العربية كأغنيات النوبا والنوبة والبجا والأنقسنا والفور، او أغنيات كردفان ودارفور بسلمها السباعي، وأيقاعاتها المختلفة كالمردوم والجراري.
وشملت مدارس الغناء المكتوب باللغة العربية، خليل فرح، الكاشف (اول من ادخل الأوركسترا، عايشة الفلاتية، أحمد المصطفى، سيد خليفة، حسن عطية، عثمان حسين، ابراهيم عوض، محمد وردي، ابو عركي البخيت، محمدالأمين، عبد القادر سالم، ابراهيم موسى أبا، عمر احساس، مصطفى سيد أحمد، صديق أحمد… ألخ.
وللهادي الجبل، مدرسته الفنية، ويعتبرها البعض امتداداً لمدرسة الصومالي أحمد ربشة، من حيث هرمنة الصوت والحليات والزخرفة ( هذا رأي انطباعي، ولأهل الموسيقى رأي في مواضيع المقامات والسلالم، والتوزيع) ، لكني كمستمع أشعر تميزاً في طريقة غناء الهادي، وللمصادفة فالهادي هو مؤلف موسيقي ( لأغلبية اغنياته، إن لم تكن كلها)، بل قدم الفنان ألحاناً لنانسي عجاج ( ضحكة شمس، وأنا فوق نيلك).
تميز الهادي بموهبة عالية تتجسد في مهاراته وقدرته على التطريب العالي، واحساسه المرهف الذي يلون حروفه بجمال موسيقي وأداء راقي، وتميز كذلك؛ بذائقة شعرية ساعدته على اصطياد لآلئ كلمات غاية في الجمال؛ من حيث المفردة شكلاً ومضموناً وشاعرية، وما تتضمنه من رمزية ثابتة أو متحولة، والمزج ما بين الحبيبة الوطن، والوطن الحبيبة، واستلهام الطبيعة للتعبير عن المشاعر الإنسانية.
ليس غريباً على فنان تربطه علاقات فنية وصداقات متينة مع شعراء مثل قاسم ابوزيد، يحي فضل الله، وقبلهما الفاتح محمد عظيم؛ ان يكون مهموماً بعملية إختيار نصوصه.
لذلك يمكننا أن القول؛ بكل ثقة أن عوامل نجاح الأغنية توفرت جميعها لدى الهادي، فالنصوص المكتوبة تتدفق شاعريةً و حيوية، والقوالب الموسيقية تفيض جرأةً من حيث التجريب والتجديد والتعبير والخروج عن السائد، والأداء يتسم بروعة التطريب، والقدرة على تصوير المفردات وتلوينها باحساس فنان مرهف.
ليس اجمل من أن تكون متكئاً فيفاجؤك صوت الهادي، متشرباً من مياه النيل، يأتي من بعيد منساباً في دعة وهدوء مثل هدوء بحر ابيض.
بفرح بيها البنية الهايجة في أحضان خواطري البشتهيها..
بفرح بيها البنية اللامست ايد السعادة وضجت الأشواق عليها..
الحبيبة الايقظت نبض الحروف في قلوب صدر الكلام..
القريبة الزي لي في عيونها برتاح الهيام..
يأخذك اللحن جذباً صوفياً، يسترق الأداء كل حواسك، بل يقض مضجعك.
((دي الشوقها نص الليل بصحي غامض الغمضة وجليها..
ليها بتحن القوافي بيها تندسى المراسي..). وجميل أن تكون تائهاً محتاراً، ثم يباغتك عشق الدراويش.
طلعت من جوة احزانى العديدة..
نجمة تحى بتضوى فى دجى الليلات وحيدة..
فكرة فنانه وجديدة نظرة لماحة وفريدة..
فتشتا عنها فى القري النائية البعيدة..
وسألتا فى بلاد ومدن عديدة..
ثم تسرح مع الأحلام والأمنيات والأغنيات.
ابحرتا فى كل الموانئ اكوس عليها
أهاتى بيها واناجى فيها..
مشتاق علىّ المها احتويها اشمها..
بالحنان العندي كلو أضمها..
وصدفة فى ابعد وفى اجمل مدينة.
ثم تقفز مسروراً كطفل لمح أمه، او درويشاً وسط نوبة ( ترن وتئن) بعد أن ينقلك اللحن الموسيقى وصوت الهادي الى مرحلة جديدة.
جنت أوتار الطنابير هزت النشوة المزامير..
وانا بين مصدق وما مصدق إنى بلقاها..
إلا ياها
هى ذاته حبيبتى ذاته اللحظة نازل فى حماها
وفى ضراها واتقاسم الاحلام معاها..
وللهادي، قدرة عالية على التطريب عبر بث الشجون، وسط واقع ملتبس، فتدغدغك الموسيقى، وتمرجحك الأنغام..
مع السراب وقت النزوح
مرسايا يتوهد ويروح..
أمشي في الريح في الريح..
زي نجماً فوق ظلام الليل يلوح..
هنا حالة تيه وقلق، تشبه مركب وسط النيل تعبث بها الأمواج وسط عتمة ليلٍ، ولا ترى غير نجمٍ يلوح في الأفق البعيد، ولا يزال في النفس بقايا أمل.
ويطل صباح ويفوت غروب..
في بحار النور اتوه واسوح بين الدروب..
تستمر رحلة الهادي، رغم السراب، لكن تعيدك الموسيقى والصوت في نهاية الأغنية إلى هدوء النيل الأبيض.
واسبح بعيد، واسبح بعيد.
تتفرد نصوص الهادي الجبل، المكتوبة والصوتية بالحيوية، والقدرة على التنقلات ما بين الفرح والتيه والشجن واللوعة.
وافتقدتك يا صبا عمري
وشبابي..
افتقدتك لما زاد الشوق عذابي..
افتقدتك في أسايا وفي
اغترابي…
ولا ينسى في خضم اللوعة والفقدان أن يرسل رسائل الأمل، التي تتسرب من مفردات النص وحروف الموسيقى وقدرتها على التعبير عن مشاعر الفنان.
اكتبي لي عن مشاغلك..
عن اي شي في الدنيا شاغلك..
اي زول في الدنيا لو سألك علي..
قصدو يعرف ايه علاقتك انت بي..
قولي ليه باكر ايوة باكر
راجع الي..
الهادي الجبل، نجم، تحجبه أحياناً سحب الإنزواء، وجوهرة لم نقدر قيمتها الغالية.