أما لمحكمة انقلابي يونيو 1989 من آخر: يا هيئة الدفاع “راعي عامل السن” Please
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم (1-2)
.
لو كان لأقوال الرئيس المخلوع عمر أحمد البشير الأخيرة أمام محكمة انقلابي يونيو 1989 من مزية فهي في التذكير بأن هذه المحاكمة، التي بدأت منذ أكثر من عامين، ما تزال منعقدة. فأشاد بشجاعته من أعجبه تحمله مسؤولية الانقلاب كاملة في أقواله من فوق حيثيات أدان فيها النظام البرلماني الذي كتب نهايته بانقلابه عليه. ورأى آخرون أنه بتحمله مسؤولية الانقلاب كان مكرهاً لا بطلاً لأنه لم يأت بغير المعروف بالضرورة عنه وعن انقلابه. وإن قال بغير هذا المعروف عنه خرج من المعنى بالكلية.
أعادت أقوال البشير في المحكمة عن الانقلاب كثيراً من الناس إلى الالتفات للمحكمة، ولو لحين، بعد انصراف طويل عنها. فقد اسقم طول انعقادها، أو تطاوله، الناس في وقت تزاحمت عليهم أزمات سياسية ومعيشية وصحية أخذت بخناق بعضها أزهدتهم عن متابعة جلساتها. فذبلت حتى تلك الوقفات من أنصار النظام القديم التي كانت تجتمع أمام المحكمة للتضامن مع رموزهم المعتقلة لدى وصولها قاعة المحكمة، أو تلاشت.
ومع ذلك تتحمل المهنة القانونية في الاتهام والدفاع معاً خمول ذكر هذه المحكمة المهمة بين الناس. فلم يتصالح الدفاع بعد مع الطبيعة القضائية للمحكمة بعد أن دمغها بأنها سياسية محض من تدبير نظام، هو الحكومة الانتقالية بعد الثورة، اغتصب السلطة. وزاد الأمر سوءاً بخروقها للدستور والعدالة سنأتي عليها. وقامت استراتيجية الدفاع بالنتيجة على الإضراب عن التعامل مع التهمة الموضوعية وهي قيام موكليه بالانقلاب. فتجد المتهمين تطبيقاً لهذه الاستراتيجية إما امتنعوا عن الإدلاء بأقوالهم أمام لجنة التحري، أو أرخوا لأدوارهم في دولة الإنقاذ إلى ما بعد قيام الانقلاب. فلم يكن من بد أمام العسكريين منهم بالذات من الاشتراك في دولة الإنقاذ في صلاحيات مختلفة. وبالأمر. بل وأنكر أقواله من سبق منهم بها في يومية التحري ليتوافق مع استراتيجية هيئة الدفاع في مقاطعة المحكمة السياسية التي تسلطت على موكليها.
ولما لم تعد في نظر هيئة الدفاع ثمة قضية موضوعية أمام المحكمة تفرغ للتقاضي حولها تحولت الهيئة نفسها إلى تظاهرة سياسية يومية. ومتى صبرت على مشاهدة فيديوهات جلسات المحكمة طرقت أذنك بصورة راتبة عبارات القاضي في تهدئة انفعالات أفراد هيئة الدفاع أو ضبطهم: “ما في زول يتكلم”، “أقعد”، “إجلس يا أستاذ”. وحين يضيق القاضي ذرعاً ينادي: “هل نحتاج إلى اتخاذ إجراءات في مواجهتكم؟”
واتخذ القاضي بالفعل إجراءاً بحق أحد المحامين أكثر من الوقوف والحديث بغير أذن المحكمة. وكان يصر على ألا يذكر المتحري اسم متهم، أو من اتصلوا بالانقلاب، بغير سبق ذلك بلقبهم مثل “دكتور” أو بالترحم على من سبق إلى الدار الآخرة منهم. وبالفعل رفع القاضي الجلسة لينتحي بعضوي المحكمة ويعود بقرار طرد محامي الدفاع عن الجلسة. وتلافت هيئة الدفاع فعل الطرد باعتذار جماعي للمحكمة. وقام بالاعتذار محاميان في حين كفى الواحد منهم. وقبلت المحكمة الاعتذار وسمحت للمحامي الطريد أن يبقى في الجلسة. وبدا لي في أكثر من موضع في الجلسات أن ثمة شق في هيئة الدفاع نفسها بين من يتولون الدفاع عن منسوبي المؤتمر الوطني وبين المدافعين عن منسوبي خصمه المؤتمر الشعبي الذي انشق عليه في 1999.
وبلغ شغب هيئة الدفاع حد المظاهرة في أحد الجلسات. وكان ما استفز الدفاع للتظاهر وصف الاتهام لهم ب”الاستهتار” لتكتيكاتهم في تعطيل المحكمة بصور ذكرها. فوقف جماعة منهم، وفي وقت واحد، يريد كل منهم الاحتجاج للمحكمة على نبوء الكلمة والرد على الاتهام. وتعالت الأصوات لا يسمع هذا من ذاك. واستمر المشهد لنحو أربع دقائق بح خلالها صوت القاضي: “اقعد، اجلس يا أستاذ، ما في زول يتكلم، احترموا المحكمة”. ولما لم تجد مناشداته فتيلا رفع الجلسة ليجتمع بعضوي المحكمة. ولما انعقدت المحكمة ثانية قرأ القاضي هذا الإنذار لهيئة الدفاع:
“أنا عاوز أقول ليكم حاجة يا سادة هيئة الدفاع. درجت هيئة الدفاع على عدم الانصياع لقرارات المحكمة ولمقاطعتها كثيراً. و(المحكمة) ضبط الجلسة وإدارتها من (شؤون) اختصاص المحكمة وقضاتها أو قاضيها. واحترام المحكمة هو احترام للسلطة القضائية وللأجهزة العدلية بما فيها السلطة القضائية والنيابة وحتى الاتحاد العام للمحامين السودانيين. المحكمة قادرة تضبط الجلسة. سكوت المحكمة لا يعني ضعفها ولا يعني أنها تجهل القانون. عندها من القانون ما هو كفيل بحفظ ضبط الجلسة وإدارتها. وما تقومون به، عفوا بعض هيئة الدفاع وليس كلكم، يشكل إجرام، يشكل مخالفة لنص المادة 138 وقد يتجاوزه إلى تعطيل سير العدالة (وهو) جريمة كاملة يُعاقب عليها بموجب القانون الجنائي لسنة 1991. أرجو ألا نضطر إلى مثل اتخاذ هذه الإجراء مستقبلاً. أرجو احترام المحكمة. المحكمة قادرة تدعو أي زول، تمنح الفرصة لأي زول. تقدم محاكمة عادلة للمتهمين. المحكمة ما مسلطة. المحكمة شغالة وفق القانون. أي إجراء يخل بسير المحكمة سوف (لا تسمح) عنه المحكمة. وأرجو ألا نضطر اتخاذ الإجراء مستقبلاً”.
وواضح أن القاضي احتمل ما لا يطاق من الدفاع. بل كان هو نفسه حل محل قاض سبقه اعتذر عن مواصلة رئاسة نفس المحكمة لظروف صحية.
وسنرى في حلقة أخيرة كيف أزهد المحامون من صف الثورة الناس في المحاكمة باعتزالهم التعليق على مسائلها الإجرائية والموضوعية. وبدا من انشغالهم بغيرها ومغايظاتهم وكأن المحكمة تنعقد في بلد آخر مجهول.