العُشرة الطيبة: انا البطلع هدوم بت نور الشام عشان أشم ريحتها فيهن

0 110
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
كنت قد كتبت قبل ايام أزكي مقالاً للأستاذ سيد أحمد خليفة (الوطن 14-12-1988) نعي فيه والدته الحاجة حسنة بت نور الشام. وقد جذبني اليه حتى احتفظت به لنحو 15 عاماً لأنه يصور حياة امرأة من غمار الناس لم يشغلها الضر عن الاستمتاع بحياتها. فكلما بني زوجها بواحدة حتى بلغن ثلاث بالعدد “خاوتهن” بت نور الشام وافسدت عليه ضرب الواحدة بالأخرى. وهذا ذكاء لم نتعود نسبته الي الأميين والأميات من “ناس زمان”. فالحضارة وازدهارها روضتنا على أن الحياة تبدأ بعد التعليم والوظيفة والحمام والزول يكون بسام.
وقيمة كلمة سيد أحمد في أنه نقل لنا من الباطن صورة لحيوات نساء سعدن حقاً بزمالة واحدتهن بالأخرى في جمر الضر. وهذا حرية قالت الماركسية إنها أبداً بنت الضرورة. فالحرية ليست طلاقة مجنحة بل هي إدراك للضرورة. فمتي أدركت ظرف الضرورة الذي يحدق بك تفتقت حيلك وأتسع رميك.
توفت الحاجة بت نور الشام. وتهيبت الأسرة فتح دولابها لأخذ هدومها الي المساكين حول ضريح الميرغنية ببحري. وتطوعت الحاجة مريم بت أحمد ود طه ودقت صدرها “وقالت انا بطلع هدوم الحاجة عشان أشم ريحتها فيهن. وبكت مريم وبكينا جميعاً لأن دولاب الحاجة انفتح لأول مرة دون حضورها أو رضاها. ولأن المفتاح لم تفكه من سير محفظتها العتيقة التي لا زالت تختزن فيها التعريفة والقرش والفريني أب قرشين”.
وفي المشهد شذوذ ما. فمريم التي هجمت على هدوم بت الشام حين أحجم الآخرون هي ضرة بت الشام لخمسين عاماً. وقد تزوجها الحاج محمد ود خليفة طلباً للأولاد الذين تأخروا عن طريق بت نور الشام. وما أن جاءت الضرة حتى حملت بت نور الشام وولدت ثلاث بطون. وقال سيد أحمد: “وكنا نضاحك الحاجة بت نور الشام ونقول لها إن عرس مريم خوفك ووَلّدك بسرعة. وكانت تنفعل وتقول “السجم! أنا ولدني الله وسيدي الحسن وود جبريل”. وكان ود جبريل فكياً مبروكاً وصف لها شراب الحلبة للحمل بالجنى.
ولم تفت حيلة ود خليفة علي المرأتين فتحابتا في الله. فكانت بت الشام تصف ضرتها مريم ب “الحبيبي” وهي أعلي مراحل الود عندها. ولا تخص بها إلا الأقربين مثل أخاها وأخواتها وذريتهم “الحبان ولاد الحبان”. ولم تحضر مريم الحبيبي مرض بت الشام ولا موتها فتضاعفت حسرتها لأنها “لم تحضر ولم تودع ولم تطلب العفو”. وكانوا يطمئنونها “بأن الحاجة كانت تعفو عنها وعن غيرها من الناس صباح مساء. وكانت تخص مريم “بعفو يكافئ ويجازي العشرة الطيبة”.
ولم يكتف ود خليفة بضرة واحدة لبت نور الشام بل ثلّث بالسيدة بت الجريف. وكانوا يداعبونها بأن ود خليفة كره تحالفكن أنت ومريم عليه فضربكن بأخت ثالثة. وكانت تقول: “السجم. نحن ما اتفقنا عليه لكن كان هو شاكي فينا عشان من جات مريم ودخلت بيتي رحبت بيها وقلت ليها الجابك يجيب عقابك ويحفظ شبابك. ولكن أبوكم سر أساي . . . حسدنا في حبنا وولفنا وقال الحريم الاتنين اتفقن علي وعشان كدي راح جاب التالته. ولكن وحاة أحمد اتمقلب برضو عشان التالته ذاتها بقت حبيبتنا وأختنا”.
من أعنف من ظن أن حياة مثل بت نور الشام وعصبتها بلا معني او طائل السيدة آنا بيسلي التي عملت في سلك التعليم خلال الحكم الإنجليزي. وكتبت كتاباً عن تجربتها السودانية. وقد لاحظت الدكتورة ليدوين كابتيجن، التي درست التاريخ بجامعة الخرطوم في السبعينات والثمانينات ومن محبات نساء السودان البسيطات، أن بيسلي خشنة جداً في وصفها وتقديرها لحياة نسوان البيوت. فهي ما تكف تعبر عن شفقتها على نمط حياتهن الكئيب الراتب وتصفهن بالكسل والبطء وتسبيب الكدر. وقالت ليدوين إنه لم يخطر على بال بيسلي أن للنساء الجاهلات حياة ممتعة وقيمة. وقالت إن جعل بيسلي التعليم شرطاً للسعادة الزوجية مقطوع من قماشة المهمة التمدينية الإستعمارية. ولم يترك لها هذا الشرط الإمبريالي أدني فسحة للتعاطف مع التقاليد الثقافية السودانية أو تذوقها.
وكل من عرف ليدوين الهولندية عرف أنها “الحبيبي” كما كان يمكن لبت نور لشام أن تهنأ بها وتسميها.
.
قد تكون صورة ‏‏شخص واحد‏ و‏منظر داخلي‏‏
* الصورة للدكتورة لدون كابتيجن التي درست التاريخ بآداب جامعة الحرطوم في الثمانينات

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.