الطبيب نزار غانم: جسر الوجدان بين اليمن والسودان
كتب: صلاح شعيب
.
كانت طفولته تحمل الخبرات الصادمة، والعنيفة، والودودة، في الوقت ذاته. ولئن لم تحظ الأسرة بالاستقرار فقد عاش الطفل نهاية الستينات أهوال الحرب الأهلية اليمنية، ثم حرب فصائل أو كتائب لبنانية في بيروت في السبعينات. وفي السودان عند استعار معارك يوليو ١٩٧٦ كادت قذائف مدفع طائشة أن ترديه قتيلا. ولكن أباه البروفيسير بجامعة الخرطوم آنذاك محمد عبده غانم ربت على كتفه، وقال له إنك خُلقت لتعرف فداحة العنف. وهكذا كتبت له الحياة ثانيةً. وعقب هدوء الأحوال استأنف الثانوية في كمبوني الخرطوم.
استمرت أيامه في السودان حتى صار طبيباً متخرجاً في جامعة الخرطوم، ولا يني بعد التخرج، وممارسة الحياة العملية، عقب سنوات من البروز في مجال الطب، والمحاضرة في علم الإثنمويزكولوجي، والكتابة عن تجليات، ومؤثرات، العولمة الثقافية، والتجسير الحضاري بين السودان واليمن، وتلمس افريقيا في الغناء اليمني عبر اصدارته التي جاءت بعنوان “الرقصات الآفرويمنية”. وفي وطنه الثاني يبحث نزار عن نهوند وسيكا غرب السودان، وتفسير اتجاهات العاقب في التأليف بالمقامات السباعية، والتي جعلته يؤدي أغنية “حبيب العمر” كما لو أنها هبشت عشقه الأول في الجامعة.
وبهذه المثابرة في الاغتراف من الهويتين الباحثتين عن تسوية مجتمعية لكل منهما جدّ اليماني الأصل في البحث الدائم عن ذاته السودانية المعطونة بهوى قدره الوجودي لينتهي إلى اجتراح مصطلح السومانية في سفره القيم، معرفاً اليمنيين بأدوار مميزة لمواطنيهم في حقن السودان بوتائر الثقافة، والفنون، والغناء، والتجارة، والاجتماع، والاقتصاد، عبر فترات التاريخ القديم، والحديث.
ومن الجهة الأخرى عرف د. نزار السودانيين بما قدمه مواطنوهم المهاجرون في اليمن في حقول التعليم، والاجتماع أيضاً. وبهذا السفر أرخ الطبيب المثقف للوشيجة الحضارية التي تربط البلدين بفعل هذا التثاقف الفريد بين الأفريقانية والعروبية، والتي مزجت هنا وهناك مزجها الذي انعكس في هذه العلاقة القطرية المميزة بين الحواضر اليمنية، والسودانية.
فوقاً عن كل هذا، فقد انشغل نزار باهتمامات له في منظمات المجتمع المدني، والطبابة المجانية للأدباء وأسرهم في اليمن، والتي ابتدرها كفائض قيمة إنسانية. ولكن الحرب مجدداً تلقي باثقالها المحزنة في طريقه بعدن. وهنا في طريق الخرطوم التي خبر جيداً تاريخها لنصف قرن استقر بها محاضراً في الأحفاد، وجامعات أخرى، ويشهد له منذ عودته للسودان حضور متواصل في منتديات الخرطوم الثقافية، والصحية، والاجتماعية، والأكاديمية، والفنية.
-٢-
منذ صباه كان يتابع نزار النكبة الثانية للفلسطينين والعرب في عام ١٩٦٧، والتي انتهت بوقوع المسجد الأقصى في يد اسرائيل. لم يصدق ما كان يسمعه في الراديو الذي أدمنه، وشك في ما كان يقول به المذيع أحمد سعيد عن اتجاهات الحرب التي يضخمها بانتصار للعرب. في مكتبة والده كان يقرأ سمير، والعربي الصغير ثم الكبير، ويلمح عناوين ضخمة من مكتبة الوالد الذي يعد أول خريج جامعي من الخليج. وفي المدرسة الابتدائية باليمن ينشغل بجريدة حائطية متجاهلاً الرياضة، ومفضلاً الكشافة. عند تلك الفترة تأثر بأستاذيه على الرديني، ومحمد سالم التوي. وفي ذلك التوقيت أعلنت المدارس في اليمن إجازة لمدة ثلاثة أيام حزناً لوفاة عبد الناصر. ولكن شغفه الزائد بالمدرسة قاده إليها على كل حال، غير عابئ بالفكرة أصلا. ومنذ ذلك الوقت نما في داخله استقلالا انعكس على خوضه التجارب بلا مخافة مما يخبئه مقبل الأيام.
ولذلك حين جاء إلى جامعة الخرطوم مع والده الذي كان يحاضر فيها اقتحم حرمها الشعري بقصائد جعلته أحد نجومه. كانت خرطوم السبعنيات، وجامعتها تعج بالنشاطات الثقافية. وقد لحق بقبس من ندوة عبدالله حامد الأمين في أمدرمان.
استقلالية الجامعة فتحت أفقه على شدة التجاذب الفكري بين الجبهة الديمقراطية واليسار من جهة والاتجاه الإسلامي من الجهة الثانية. لكن لم تكن لدى نزار اهتمامات بالسياسة لإحساسه بأنه يعيش في بلد آخر في بادئ الأمر. ولذلك نشط ثقافيا منذ العام الأول في الجامعة حتى أصبح سكرتير جمعية الموسيقى والمسرح. وأحياناً يخرج من معاظلات علم التشريح ليُروح بنفسه في منتدى الفلاسفة لشداد، ويتابع بعضاً من أركان النقاش، ويركز في سطور “أشواك” محمد طه محمد أحمد التي كان يصدرها، بجانب إمعان النظر في صحيفة الجمهوريين حتى تأثر لاحقاً بالفكرة فكتب قصيدة عن الأستاذ محمود محمد طه.
أفلام العربي والكاوبوي في سينما النيل الأزرق، وكلوزيوم، استهوته، وكذا برنامج “هواة الاستماع” الذي يديره شبان فكرانيون بقاعة البغدادي، حيث تأتي للمحاضرة شخصيات من خارج الجامعة كل يوم الثلاثاء أمثال الصادق، ومالك بدري. لا ينسى نزار أنه أصدر “الواحة” ويتذكر أيضاً صحيفة الطالب محمود ميسرة السراج، وفرقته المسرحية التي تشارك فيها طالبة الصيدلة، والفنانة فيما بعد في عقد الجلاد، منال بدر الدين. أما أسامة الخواض الذي كان في الصيدلة فقد كان يُقيم ركناً للنقاش، ويصدر صحيفة يخطها بقلم الشيني، وهناك مبارك محمد فضل الذي يصدر جريدة “مشاوير”، والمسرحية لاحقاً نعمات حماد تشغل الجامعة بصحيفتها التي ترويستها “استوب” فيما يقدم أبشر حسين استكتشات مسرحية، وبعدها يتواصل الأنس في غرف الطلاب بالجامعة، إذ هناك يعزف، ويلحن، بالعود ما تيسر من أغاني عبد القادر سالم، وصلاح مصطفى، وبفضل ذلك تعلم الكوباني العود، وآخرون. وفي الإجازات يستمتع بنغم الفنانين الذين يحيون حفلات بالجامعة.
-٣-
لم يكتف نزار بمناشط الجامعة فقد سعى لنشر الشعر في مجلة الشباب والرياضة عام ١٩٧٧، والتي نظمت مسابقة في الشعر ففاز بالجائزة الأولى. ويضحك حينما يتذكر أن منحة السبعين جنيهاً من المجلة جعلته يسعى لتذوق طعام هيلتون الخرطوم بعد أن عزم صديقه الشاعر محمد بادي. وفي الصحافة ساعده خالد المبارك في النشر عام ١٩٧٩، وكذلك علي المك فنشر سلسلة “بين صنعاء والخرطوم”، والتي طورها لاحقاً إلى المجلد الضخم: السومانية – جسر الوجدان بين اليمن والسودان.
الإذاعي عطية الفكي قدم نزاراً مع ود بادي، وود العشا، في برنامج “أولاد دفعة” وكذلك استضافه الأستاذ محمد توفيق أحمد في عدد من البرامج الإذاعية. أما الراحل محمد سليمان فأول من قدمه للتلفزيون عبر برنامج “دنيا دبنقا”. ومن مجايليه كذلك في كلية الطب المعز عمر بخيت، وأحمد فرح شادول، وعماد الفضل، وكمال أبو سن، وعبد الرحمن العشا.
علاقتي بنزار تعمقت قبل أن تأتي به اليمن ملحقاً ثقافياً في سفارتها بالخرطوم، وشرفني في نهاية التسعينات بالحضور عند زواجي برفقة وفد من الإخوة اليمنيين الذين تابعوا طقوس الزواج وبمشاركة أصدقائنا المشتركين عبد السلام حمزة، وعثمان المجمر، والتقيته آخر مرة في القاهرة عام ٢٠٠٠ مشاركاً في تكريم مركز الدراسات السودانية للطيب صالح، ومنذ ذلك الحين ظللنا نتبادل الرسائل ويمتد الأنس حول ما يجري حولنا في السودان واليمن، ونتبادل ما نعرفه من جديد قراءاتنا. ولقد فرحت كثيراً بأن مُنح نزار الجنسية السودانية في ٢٠٠٩. فرجل مثله يتقدمنا في محبة السودان، وكان يمكنه أن يعيش برغد في بريطانيا أو الخليج ليحظى بحياة سعيدة. ولكنه قال إنه عاد للسودان ليرد جزءً، ولو قليلاً من وفاء لما قدمته له جامعة الخرطوم، والحياة الثقافية، والاجتماعية في بلادنا. ذلك رغم أن والده الشاعر والأكاديمي الفذ خرج العديد من طلبته السودانيين، والذين ما يزالون يحفظون له جمايله الكثيرة عليهم، ويتذكرون وصايا صديقه الأديب عبد الله الطيب بألا يتركوا محمد عبده غانم الا وقد عصر عليهم علمه الغذير. وهكذا تتعمق الوشائج الحضارية بين الشعوب ليكون نزار، ووالده، وناجي القدسي، والطيب عبدالله، وباعبود، وبازرعة، وكل الحضارمة، ورموز سودانية كثيرة من أصل يماني عناصر مغذية للوجود السوماني.
.