الترابي: فيروس الانقلاب وفداء العقيدة

0 61

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

(كلمة قديمة عن الأستاذ محمود محمد طه في زحام الممارسة الانقلابية في السودان)

كفاني الأستاذ محجوب عروة مؤونة العبارة حين قال إن أصل مأزق الدكتور الترابي في ضلوعه، وهو رجل الفكرة، في خطة الانقلاب العسكري “كتخريمة” للحكم. وقد رد عروة تراجيديا الجماعات العقائدية والإيدلوجية إلى إصابتها بفيروس “الانقلاب” الذي ضريها في مقتل. وسنصيب كلنا علماً وحكمة إذا استصبحنا فقه الانقلاب في سياق تحليل وقائع أزمة الحركة الإسلامية الراهنة. وهو فقه نشط الشيوعيون في تبويبه على أيام خصومة جناح أستاذنا عبد الخالق وجناح المرحوم معاوية إبراهيم قٌبيل انقلاب مايو 1969 وبُعيده في مناظرتهما الطويلة عن طبيعة 25 مايو، وهل هي انقلاب أم ثورة. وللشيوعيين دفاتر مرموقة من هذا الحوار آمل أن تجد سبيلها إلى حديثنا المتجدد عن فيروس الانقلاب.
من فضول القول بيان كيف هد الانقلاب حيل العقائد السياسية الحديثة. فقد أخذها تحت جناحيه وحولها من أشواق ومعاناة وحوار مع الشعب لكسب الأفئدة والقلوب إلى هتافات راديو وإهانة للعقل. وسقطت مصداقية العقائد بين الناس الواحدة في أثر الأخرى. وتلك أم الخسارات لا يعدلها تردي اقتصاد، أو تفاقم دولار، أو زيادة سكر. فما مس هذه العقائد ضٌر أو نقص حتى فقدت وقارها وبصرها وبصيرتها وركبتها نوازع الانتقام وحبائل التفرد.
وربما كان البادي بذلك هو الحزب الشيوعي. وأمره أوضح من أن توقد له نار. فقد دفع ائتمار الأحزاب بالشيوعيين في برلمان عام 1965 بالحزب إلى خيار الانقلاب. ثم اطرد الأمر وأخذ الانقلاب بخناق الانقلاب فيما يشبه “داوني بالتي كانت هي الداء”. وتسرب من جراء ذلك الحزب الشيوعي القوي إلى هامش في السياسة السودانية. ولم تسلم من فيروس الانقلاب حركة الجمهوريين التي استظلت بسيف نميري طويلاً للغصص التي جرعتها الأحزاب لها عام 1968 باستصدار حكم الردة الأول بحق المرحوم الأستاذ محمود محمد طه. ثم جاء الإنقاذ.
تهاوت العقائد على صخرة الانقلاب واحدة في إثر الأخرى. واقتضى فض الاشتباك بين الانقلاب فداء عظيم. فقد روى د. الشعراني المحامي (الوطن 10/10/1988) أن المرحوم محمود اجتمع بأصحابه يحدثهم عن معارضته لقوانين سبتمبر 1983. وقال المرحوم إنها بلاء وسيزول. وضرب لهم مثلاً بقصة الشيخ الوقيع الذي خيم الجدري على قريته فأهلك الخلق. وهرع الناس إليه هلعاً فطمأنهم على أن الوباء سيزول بإذن الله، ولكنه سيأخذ معه شخصاً طيباً. وكان أن انحسر الوباء غير أن الشيخ الوقيع مات بالداء. ورمى المرحوم محمود بحكايته هذه إلى تهيئة أحبابه لموته فداءاً للوطن الذي خيم عليه ظل نميري الإسلامي الثقيل.
ومن الجهة الأخرى وقف أستاذنا عبد الخالق على حافة هذا الفداء بعد انهيار انقلاب 19 يوليو. فقد قال لي من أثق فيه إن أستاذنا كان حريصاً على الاختفاء من غير أن يعرض نفساً متطوعة من الأهل أو غيرها لشر النظام. وظل يبحث عن ملاجئ الحزب ولا ملجأ. واستسلم قائلاً: إن هذا الوحش السعران (أي نميري) لن يبرد له جوف حتى يقتلني، وأنا لها. وبقية القصة معروفة. رحمهما الله وأحسن إليهما.
تخفق أفئدة السودانيين بالدعاء والرجاء أن لا يضطر الدكتور الترابي ولا غيره إلى هذا الفداء الفادح. فالترابي هو وحده الذي بقي لنا من جيل صناع الأفكار الأكابر. غير أن فداء دكتور حسن في أن يضبط النفس وأن يتجلد على الخذلان، وأن يقوى على انفضاض الأحباب. وفوق هذا كله أن يردع بجفاء حرقة الثأر أو الطمع في الذين من حوله الآن حتى لا يتطوع محب له مندفع (في مثل تطوع المرحوم هاشم العطا ورفاقه في حال الشيوعيين) بغير إذنه أو استشارته فينفرط العقد ويخرج الأمر عن اليد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.