السودان: حين تقتل التكتيكات الاستراتيجية أناسا جيدين
جوهر الخلاف الذي أدى إلى حالة التشرذم بين قوى الثورة الفاعلة في معسكر التغيير في السودان ودفعها في معارك ضد بعضها البعض، بل ودفع بعضها في تحالفات داخلية وخارجية تتعارض بشكل جوهري مع أهداف الثورة والتغيير في السودان، هو الاختلاف حول ترتيب المخاطر على مستقبل الديمقراطية والاستقرار في السودان.
هذه المخاطر في مجملها تأتي من ثلاث جهات رئيسية: قوات الدعم السريع، وبقايا النظام القديم (الإسلاميين ومن تحالف معهم من أحزاب ومجموعات)، وقيادة الجيش الحالية. هذه الجهات بينها تقاطعات مصالح وتحالفات وعداءات، كلها وقتية، حيث أن ما يجمعها من مصلحة استراتيجية في الحفاظ على نفوذ كل منها الذاتي الخاص به والجمعي المتعلق ببقائهم في السلطة، هو أكبر من أي شيء اخر. وهي الجهات نفسها التي اشتركت وبشكل مباشر في تخطيط وصناعة وتنفيذ انقلاب 25 تشرين الأول- اكتوبر 2021، وهي الأطراف التي شكلت هيكلة الحكم لفترة 30 عاما تحت رئاسة البشير، والتي لا يمكن وصفها الآن بغير أنها قوى الردة والانتكاسة في مقابل بقية القوى التي ساهمت في صناعة التغيير الذي جاءت به ثورة 2018. وما كان انحيازها لجهة معسكر التغيير بعد اسقاط البشير ، إلا استراتيجية بقاء واستمرار وانحناء لعاصفة المد الجماهيري الثوري.
وما تركت هذه القوى جهدا في محاولة التغلب على أمواج هذا المد، سواء في 2019 (مجزرة فض الاعتصام) ومرارا خلال الفترة الانتقالية، حتى انتهت بالانقلاب … وكانت إرادة الشعب السوداني، في كل هذه المرات وحتى الآن، منتصرة في نهاية المطاف. ولكن يبدو أن النكسة السياسية التي نتجت عن الانقلاب ادت إلى اختلال وضوح هذه الحقيقة لدى المجموعات المختلفة التي تشكل فسيفساء قوى الثورة.
اعتمدت قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي – أو بالأصح مجموعة الأحزاب والأفراد المسيطرة على اتجاه القرار داخل المجلس المركزي على تحليل يضع الإسلاميين وبقايا النظام القديم كالمهدد الأكبر لاستعادة مسار الانتقال واستكماله، وهذا تحليل يستند إلى واقع قريب وإلى خلافات سياسية ذات سياق معاصر وتاريخي، شكل المشهد السياسي في السودان حتى الآن. وبطبيعة الحال، فإن مجموعات الإسلاميين لها تأثير ونفوذ كبير على قيادة الجيش الحالية، ومراكز صنع القرار فيه، باعتبار أن تحالف العسكر والإسلاميين كان هو التحالف الحاكم للبلاد منذ انقلاب 1989، وبشكل سابق لنشوء وتطور قوات الدعم السريع التي ازداد نفوذها حتى أصبحت جزءا من معادلة السلطة.
دفع هذا التحليل مجموعة المجلس المركزي باتجاه الطرف الثالث في معادلة القوة، باعتبار أنه الضلع الاكثر تناقضا مع الإسلاميين. فخلقت هذه المجموعة تحالفا سياسيا عضويا مع قوى الدعم السريع، التي تعتبر ويعتبرها الإسلاميون الخصم الأساسي لبعضهم البعض. يسر هذا التحالف سماسرة السياسة الإثنية والذين لا يرون بأسا في نظام الميليشيا السياسي داخل قوى الحرية والتغيير، والذين ارتبطوا على الدوام بعلاقاتهم العضوية مع قوات الدعم السريع والتي لا تختلف معهم كثيرا في مآلات المواقف السياسية.
ليس بأكثر دلالة على هذا التحالف الذي نمى بشكل متسارع منذ الشهر الثاني للانقلاب، من التأييد الأتوماتيكي الذي يمنحه حميدتي لكل خطوات تحالف المجلس المركزي على بياض، مثل تأييده العلني لوثيقة دستور نقابة المحامين حتى قبل الاطلاع عليها حسب تصريحه، وتصريحاته المتداولة عن التزامه بخط التسوية السياسية المستندة على اتفاق 5 كانون الأول- ديسمبر باعتبارها طوق النجاة الوحيد للبلاد، بل وحتى تصريحاته التصالحية -والتي تتعارض مع أفعال قواته على أرض الواقع.
وعمدت مجموعة المجلس المركزي إلى تدعيم هذا التحالف باجتذاب المجموعات الانتهازية التي شاركت نظام البشير في أيامه الأخيرة (مثل مجموعة محمد الحسن وإبراهيم الميرغني – مساعد البشير ووزير اتصالاته) مستفيدة في ذلك، أو خاضعة، لعلاقة هذه المجموعة مع قوات الدعم السريع عبر طه عثمان الحسين الذي يعتبر بشكل أو بآخر الأب الروحي للدعم السريع، والراعي الأكبر للمصالح الإماراتية في السودان منذ عهد البشير. والفائدة هنا أيضا متبادلة وشملت إعادة تقديم طه الحسين للمشهد السياسي السوداني، باعتباره العارف بخفايا الإسلاميين والقادر على مواجهتهم، حتى كاد أن يصبح الآن المستشار غير الرسمي للعملية السياسية في السودان.
سلطة الدعم السريع
وفي مقابل الدعم السياسي الذي وفرته سلطة الدعم السريع، دعم المجلس المركزي حملة تبييض الوجه التي يجريها زعيم قوات الدعم السريع والتي لم تبدأ من تقديم النصائح السياسية والإعلامية والتشاور حول تحديد نقاط الخطابات الجماهيرية بل وصلت إلى حد منحه جائزة شخصية العام لحقوق الإنسان في السودان بعد يوم واحد من توقيع الاتفاق الإطاري بواسطة مفوضية حقوق الإنسان التي عين مفوضها الناطق الرسمي باسم الموقعين على اتفاق 5 كانون الأول- ديسمبر (بمن فيهم برهان وحميدتي) خالد عمر يوسف، إبان توليه لمنصب وزير شؤون مجلس الوزراء في الحكومة التي تم الانقلاب عليها.
هذه الوجهة، على تبريراتها التي تدفع بالإسراع في قطع الطريق امام العودة المتزايدة للإسلاميين لجهاز الدولة بعد انقلاب 25 تشرين الأول-اكتوبر، تتجاهل ثقوبها الواضحة، بل الكارثية، في متنها. فأولا أن عاما كاملا أو يزيد منذ انقلاب البرهان/حميدتي، كان كافيا ليس فقط لعودة الإسلاميين لجهاز الدولة، بل لتمكينهم من التحكم في مفاصله التي تمرسوا في إداراتها خلال 30 سنة من حكمهم، وهو ما حدث بالفعل منذ الأسابيع والأيام الأولى للانقلاب. هذا المبرر كان ليكون له موضوعيته لو تم طرحه في الفترة الأولى لما بعد الانقلاب، وليس بعد مرور أكثر من 14 شهرا عليه. ثانيا، أن الاعتماد على التحالف المبرم الآن مع قوات الدعم السريع لمواجهة الإسلاميين، هو أشبه بمن يطلق الرصاص على رأسه لمعالجة صداع حاد. الإسلاميون وواجهات المؤتمر الوطني هم عدو واجهه السودانيون وقواهم السياسية موحدة على مدار ثورة كانون الأول- ديسمبر وقبلها وهزمته وأطاحت بحكمه، وأجبرت هذه المجموعات من بقايا نظامهم -ولو بشكل مؤقت كما أثبتت لواحق الأحداث- على القبول بالانخراط في مسار انتقال مدني ديمقراطي.
شرذمة قوى الثورة
ضعضع هذا المسار شرذمة قوى الثورة وتلهف بعض القوى المدنية على السلطة والنفوذ السياسي بغض النظر عن تأثير ذلك على مسار الانتقال حتى استعادت قوى الردة بعض من عافيتها لتنقض على الانتقال في انقلاب 25 تشرين الأول-اكتوبر.
ما كان ضروريا هو إصلاح وجبر ما أفسده نظام البشير في جهاز الدولة والنظام السياسي بشكل منهجي ومبدئي، وهو ما نزال نحتاجه لإنجاز مهام الانتقال نحو حكم مدني ديمقراطي مستدام و حقيقي، وليس إعادة تجربة الاستعانة بالسلطة الإدارية لتصفية المعارك سياسية كما فعلت لجنة تفكيك التمكين وأثبتت التجربة القريبة سهولة الانقلاب على ذلك. أن تأسيس نظام صحي للتداول السلمي والديمقراطي للسلطة في السودان، سيحدث فقط عبر الالتزام بمبادئ فصل السلطات ووحدة مركز اتخاذ القرار التنفيذي في جهاز الدولة والنظام الإداري الصحيح للدولة الحديثة، وليس السعي لفرض ما نراه صحيحا بمنهج الحكم لمن غلب، والاستعانة بمن هو أقوى لفرض هذه الوجهة السياسية أم تلك. قوة الثورة تكمن في مبادئها ودعم المواطنين لها وليس في عدد ما تمتلكه من بنادق، فذلك يخص قوة الميليشيا.
ما تفعله قوى المجلس المركزي الآن هو أشبه بتربية نمر في منزل للقضاء على فئران! خصوصا وأن السيد حميدتي لا يألو جهدا وبعد الاتفاق الإطاري -ومع الكلاميات البلاغية لتبييض صورته- في سعيه الحثيث لزيادة نفوذه السياسي والاقتصادي وبل حتى الإقليمي والدبلوماسي الذي يمتد من التدخلات في تشاد والنيجر ومالي وافريقيا الوسطى، وحتى العلاقات الاقتصادية والعسكرية المعلنة والخفية مع مجموعة فاغنر. إن الاستعانة بحميدتي للقضاء على الكيزان أشبه بتربية وحش شاب ومتحمس ومليء بالطموح بغرض القضاء على وحش هرم ومهزوم. تغذية مخاطر المستقبل للقضاء على مخاطر الماضي هو خطأ فادح سندفع ثمنه غاليا في مستقبل الاستقرار في السودان.
مجموعة الحرية والتغيير المجلس المركزي تحاول جاهدة تفادي الرد على هذه الثغرات بمحاولة احتكار الأجندة الديمقراطية في السودان، مستعينة في ذلك بالتواصل الدولي والإقليمي خصوصا مع المبادرة الرباعية (أمريكا وبريطانيا والسعودية والإمارات) التي يسرت التفاوض الذي أفضى إلى الاتفاق. تطرح مجموعة قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي نفسها أمام المجتمع الدولي كالممثل الشرعي والوحيد للقوى الديمقراطية في السودان. وهو أمر تنصاع له هذه القوى الإقليمية والدولية رغبة منها في التوصل إلى حل سريع – أيا يكن – مع من يرغب، وذلك بغض النظر عن ديمومة هذا الحل أو قدرته على انتاج حكم مدني ديمقراطي حقيقي في السودان.
هذه القوى ترغب في حكومة شكلانية بأي شكل تستطيع التعامل معها لخدمة مصالحها في السودان. إن العملية السياسية التي تجري في السودان حاليا لا تعدو سوى أنها محاولة لإعادة إنتاج اتفاق معد مسبقا بشكل علني. وليس بأدل على ذلك من توصيات ورشة تفكيك التمكين التي جاءت غير ذات صلة على الإطلاق بالمداولات والأوراق التي تم نقاشها. وليس من أكبر مثال على ذلك من نقاش الورقة التي قدمها أحد الخبراء الذين أحضرتهم الأمم المتحدة لاستعراض التجارب الشبيهة والتي نصحت باتباع الطرق القانونية والعدلية لتفكيك بنية النظام السابق، فيما جاءت أولى مخرجات وتوصيات الورشة بإقالة قضاء المحكمة العليا! إن الاستمرار في محاولات الاستعانة بقوى الأمر الواقع، بدلا عن قوة الجماهير لصناعة مستقبل الدولة المدنية الديمقراطية في السودان، لن يؤدي إلا إلى إنزال سقف هذا التحول والطموحات التي وعدت بها الثورة، لصالح ما فرضه انقلاب 25 تشرين الأول-اكتوبر بقوة السلاح.