زيدان: قصة أول حوار صحفي..!

0 71

كتب: صلاح شعيب

.

كانت البلد قد خرجت لتوها للوعد بالازدهار، والحرية، والتداول السلمي للسلطة. إذ غادرت مايو من محابرنا، ودفاترنا، كما قال ود المكي في ديوانه “يختبئ البستان في الوردة” الذي صدر في ذلك التوقيت. آنذاك، الديمقراطية الثالثة تشع باستنارتها في كل فصول اليوم في خرطوم الثمانينات. فالصحف العديدة من لدن السياسة، والأيام، والتلغراف، والأسبوع، والسوداني، تعج بالتغطية لمناشط الحياة كافة. والمنتديات السياسية لا تنحصر، بجانب كثافة النشاط الثقافي الذي يطبق بالأجهزة الرسمية، والخاصة.
وبينما تحل أوان الديمقراطية يخرج المريخ بالفأل الجديد، ويأتي بكاس شرق ووسط أفريقيا “سيكافا”، ليؤكد حقيقة قدرته على حصد الكؤوس المحمولة جواً. يا لتلك الأيام التي كان المسرح قد عاد ليقدم أعمالاً كثيفة حتى خرج عز الدين هلالي بمسرحية “انقلاب للبيع”.
ما كان يعنيني قبل الدخول في مجال الصحافة هو تتبع أخبار السياسة، والفن، دون تعمق مع التركيز على المريخ في الرياضة باستمرار، وذلك بأمل الانضمام إليه لو ربك هون. أولم تر أن الديمقراطية ترفع سقوف الحلم؟ حيث كان الراحل حاج شيكو قد سجلني مع عماد كِرة بكيلو باسطة بأمل أن نبدع، ونغذي من ثم أندية القمة مثلما شجعنا بعد مراسم التوقيع. عندئذ استشعرت أهمية تقديم قدرات للإبداع في منطقة الوسط للفت نظر الموردة أيضاً. وأنا في السابعة عشر انشغلت في التمارين بتقليد عادل أمين، وسامي عز الدين، وعصام عباس، وعبد المنعم الصياد، عبر فريق ليما ببانت الذي كنا نخوض به غمار منافسات رابطة العباسية. وهؤلاء النجوم كانوا يمثلون لجيلنا من هواة خانة الوسط أساطين في التمريرات البينية الخطرة، والرشاقة في استلام الكرة بالصدر، خصوصا عبد المنعم الصياد الذي رأيته يطير في الهواء ليستلم الكرة ثم يتوقف بجسده الأبنوسي لثوانٍ قبل أن يعود لتلامس قدماه النجيل.
لقد كانوا نجوماً يزرعون المستطيل الأخضر بتابلوهات تنعش الخصم قبل مشجعيهم. ولما لم أقو على مقاومة الحلم تركت الكرة لاحقاً فصعد زميلي عماد كِرة لفريق الموردة، وبحثت عن مدخل للصحافة.
أثناء تصفحي لتلك الصحف الرياضية التي أدمنتها وجدت إعلاناً عن حاجة “الأهلة” لصحفيين فذهبت إلى البوستة، ورميت الجواب المخطوط بهمة عسى، ولعل. في العدد الذي تلى ذلك الإعلان وجدت رسالة من رئيس تحريرها يعلمني بأن أحضر إلى مكاتب الصحيفة. كدت أطير من الفرح، وانتظرت الصباح بحماس زائد، فلبست عنده أجمل ما لدي من قمصان، وطرقت الباب فقال لي: تفضل. جلست متوتراً ثم هدأت بعد أن أمر لي بكوب شاي.
سألني إن كنت خطيت هذا الخطاب الذي أمامه. قلت له: نعم هذا خطي فلم يثق كما ظنيت. صمته لوهلة ذكرني بتشكيك آخر في مقدراتي على الخط الجميل. فالأول كان حين لطمني أستاذ للعربية كفاً حتى كدت أفقد الوعي. فقد كلفنا بأول مهمة بعد خلوص حصة العربي حينما كنت في الصف الثاني في مدرسة الغربية الابتدائية بالفاشر. فأنجزت النقل، وذهبت للتصحيح في مكتب الأستاذ. ولما بدأ يقرأ شك أن أخاً لي أكبر ربما خط لي الدرس، فأنكرت ذلك. وما هنيهة إلا وتخدر خدي. تفاجأت بهذا السلوك، وغضبت للغاية كيف أنني عوضاً من أن أجد “جيد جداً” لأفرح به أبي، وأمي، يكون جزاء سنمار مصيري. ولما لاحظ دهشتي قال لي بجلافة: “أقعد هنا.. هنا.. أكتب لي الدرس قدامي”.
تمالكت ثم كتبت له الدرس بخط أجمل من الأول. لم يعتذر لي، ولكنه كتب بالقلم الأحمر في التمرين “جيد جداً” لإرضائي، وهكذا خرجت لا ألوي على شيء. لم أسع للتظلم، ولكن في ذات الوقت لم أكن لاتخلى عن سرقة الطباشير للكتابة في سبورتي التي صنعتها في منزلنا.
-٢-
عند مكتب الأهلة منحني حسن مختار قلماً، وورقة، بيضاء، وأمرني بأن أجلس في تربيزة لأكتب له موضوعا كأني أصف مباراة فاز بها الهلال ليدرك صدق خطي، و مقدراتي التحريرية. وبعد نصف ساعة تقريباً أنجزت المهمة بخط أجود. وما دقائق حتى رفع رأسه وقال لي: “خلاص عيناك محرر بمبلغ تسعة وعشرين من الجنيهات..وح تتدرب معي، ومعك صلاح خوجلي، ومحمدين عبد الكريم، والنعمان على الله”، والذي رحل هذا الشهر، رحمة الله تغشاه.
الأهلة كانت صحيفة المعارضة لمجلس زعيم أمة الهلال، ورئيس مجلس إدارتها كان إدريس المعزل الذي شغل سكرتارية الهلال قبلها. ولما وجدني رئيس التحرير لا انتمي للهلال قال لي: “ما دام ساكن الموردة” فصححته بأني أسكن بانت. فواصل قائلاً: “..طيب غطي لينا أخبار الموردة، والمريخ.. ولو عندك اهتمامات فنية شوف اتحاد الفنانين..وبرعي برضو ساكن معاكم في بانت، وزيدان في العباسية”. وهكذا مع استمرار ارتباطي بنادي الموردة أجريت أول حوار رياضي مع الراحل بكري عثمان مدرب الفريق ثم جندني لاحقاً محمد حامد الجزولي وأزهري عثمان، للموردة فتأدلجت رياضياً بأغانٍ منها “بريش انفرد..أطلع يا يور”، واكتفى الأستاذ حسن شمت، ود. هشام الفيل، بمراقبتي من بعيد، وكانا من أكثر قيادات الحزب الشيوعي حباً للرياضة. شمت يشجعني كلما أدافع عن الموردة، ويقول لي دائماً: “ماشي كويس يا صلاح..”.
-٣-
في ذلك الوقت أجر زيدان محلاً يقع في زاوية مبنى مركز الضو حجوج الصحي ببانت سماه “جنة زيدان”، إذ جارى وردي الذي أسس استديو وردي فون، حيث كان زيدان يبيع أشرطة الكاسيت بالقطعة، والجملة. كان الفنان في عنفوان تألقه بينما رسخت “الليلة ديك” في مسامع السودانيين، ولا تخلو حفلات بانت، والعباسية، والموردة، وحي الضباط، وأب كدوك من تقديمه كل يوم. ولما خرجت للتو أغنيته البديعة “قصر الشوق” ذهبت إليه، ووقفت أمامه خجلاً لأطلب إجراء حوار صحفي يسند بداياتي في سنة أولى صحافة. فوافق، وطلب مني أن آتيه في العاشرة صباح اليوم التالي، وحدثت أصدقائي بهذا التطور. جهزت أسئلتي، ودلفت إليه ووجدته منتظراً ثم أجريت معه أول حوار فني في حياتي، وحكى لي عن ميلاده في مدينة كادوقلي حتى إنه ذكرها ضاحكاً، على ما أذكر. دفعت قيمة الصور التي التقطها لي صاحب استديو، وذهبت وصغت الحوار بخطي الذي كنت أطرب له أحياناً، حيث كتبت الأسئلة بقلم أحمر، والأجوبة بقلم أزرق. وفي اليوم الثاني ذهبت للصحيفة، ووجدت الأستاذين حسن مختار، والنعمان على الله، وسلمتهما الحوار ففرحا للغاية، وتذكرت تواً صدق حسن شمت. نشر الحوار فسلمت زيدان نسخة من الجريدة وشكرني على الصنيع ليكون بادرة لحوارات كثيرة تنشر في قابل السنوات قبل رحيله. وهكذا واصلت في تغذية الصحيفة بعدد من الحوارات الرياضية، والفنية، إلى أن تركتها هيئة تحريرها في ملابسات احتجاج المعزل بأنها فشلت في النيل من زعيم أمة الهلال، حيث كان يسد الأفق بشخصيته الرياضية الفذة، وبنجاحاته أمام حملات المعارضة.
ولكن أجريت مع الطيب عبدالله حواراً بعد أن عملت بصحيفة الهلال لفترة ثم انتهت مسيرتي الرياضية بإصدار كتاب “علي قاقرين: رحلة ١٤ سنة مع الشباك” قبل ثلاثين عاماً.
حوار زيدان عمق صلتي به فصار منزله، وكذلك منزل جاره عمر الشاعر، من أكثر منازل الفنانين التي دخلتها. تعرفت على والدته أم الحسن، وكثيرا ما كان منزله قبلة لعدد هائل من الفنانين، والعازفين، والشعراء، حتى غادر إلى الحاج يوسف. اعتقد أنني مدين لزيدان بالكثير حيث سهل أولى مهماتي في السعي لسبر أغوار الفن الغنائي. ولا شك أن ذلك الحوار مهد لي الانطلاق في محاورة مئات من المبدعين في مختلف دروب الثقافة، والأدب، والفن. رحمه الله، وغفر له. ورحم له الأستاذين حسن مختار، والنعمان على الله، وأمد الله في أيام، وصحة، الأستاذين صلاح خوجلي، ومحمدين عبد الكريم.

الصورة المرفقة تماثل بالضبط حالة زيدان حين أجريت معه الحوار.

.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.