المركز والهامش: من ينبح الشجرة الخطأ؟ (2-2)

0 71
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
(في نقد الدعوة القائمة لدولة للنهر والبحر تنفصل عن دارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق)
جاءت مسألة دارفور وغيرها من باب السياسة وسيكون من قلة الحيلة حلها بالجغرافيا. فخطاب التهميش رؤية ومصطلحاً وتكتيكاً منذ بدايات هذه القرن كان من صنع صفوات متعلمة في الأطراف. وتفكيك خطاب هذه الصفوات وفهم سياساته أدنى للرشد من تفكيك البلد.
ولعل أكبر الأخطاء في هذا الخطاب تغاضي هذه الصفوة عن حقيقة أن أكثر خصائص المركز وضوحاً هي أنه مركزان لا مركزاً واحد اًكما صوروه. فلم يقم مركز في الخرطوم لم ينهض بوجهه مركز معارض من الأحزاب والنقابات واتحادات المزارعين والطلاب. وثبات هذا المركز المعارض من ثبات المركز الحاكم لغلبة الديكتاتورية في صفة حكمه ل44 عاماً من سني استقلالنا ال67. ولم تشفع هذه المقاومة من المركز للمركز الحاكم عند صفوة الهامش. فظل الهامش يُعَرف المركز بالتكوين العرقي والثقافي لا بالسياسات. فالمركز “إسلاموعروبي” في نسخة دولة حكم الإنقاذ والإسلاميين بغض النظر كنت في الحكم به أو في المعارضة له. وسبقت له مسميات مثل “المندوكرو” بين حركة القوميين الجنوبيين، أو “الجلابة” في لغة صفوة دارفور. ويعود الاسم الأخير إلى تاريخ قديم في “جلب السلع”. فكان سلف سكان النيل الأوسط في الشمال ممن عملوا بالتجارة في أطراف البلاد يجلبون بضاعتهم من موضع فيه إلى آخر. فسموهم لحرفتهم في كسب العيش.
فمعارض المركز في نظر صفوة دارفور “جلابي” ولو طالت عمامته. فهو جلابي كامن سيأتي اليوم الذي يسومهم الخسف في الهامش إذا تسنم سدة الحكم في المركز. ويبدو أن وراء سقم جماعات النهر والبحر من عضويتهم في السودان حسهم بهذه العدمية السياسية. ف”جلابية” الواحد مكتوبة في لوحة القدر لا لوحة السياسة. فليس له في الكسب نصيب: جلابي اليوم جلابي أبداً.
ولعل ما استثار دعاة النهر والبحر بالذات بعد ثورة ديسمبر 2019 على صفوة دارفور ومسلحيها بالذات انهم جاؤوا إلى المركز ب”اتفاق جوبا” للسلام (أغسطس 2020) بغير ما توقعوا منهم. فكان الرجاء، بل القناعة، أنهم سيأتون لتعزيز الثورة في وجه العسكريين وترجيح ميزان القوى لصالحهم. وخاب فألهم. فعاد من عاد من مسلحي دارفور وصفوتهم يداً بيد في صحبة العسكريين الذين اصطفوهم دون المدنيين للتفاوض معهم حول السلام. ومد العسكريون لهم مداً في المنافع لهم ولإقليمهم في الاتفاق لدرجة لم تجعل منه مثار فتنة بين هوامش حسدتهم على الكسب الذي بُذل لهم فحسب، بل شبه مستحيل التطبيق أيضاً. فبعد أكثر من عامين من توقيعه لا يزال يراوح في مكانه. وأفضل ما يقال عنه هو الحاجة إلى إصلاحه. جذرياً ربما.
لم تأت صفوة دارفور ومسلحو حركاتها على توقع دعاة النهر والبحر منهم. فقد أحسنوا الظن بهم وأملوا منهم أن يروا في ثورتهم المدنية مركزاً لرفقاء في القضية لا خصماء لها كما كانت الإنقاذ. وهي رفقة تعززت بتضامنهم في النضال المدني الطويل مع المسلحين. فجرؤت جماعة منهم لتكوين الهيئة الوطنية للحماية والدفاع عن المتأثرين بأحداث “الذراع الطويل” ودم ضحاياها ما يزال يشخب. والذراع الطويل هو الاسم الذي أطلقته حركة العدل والمساواة على هجومها المسلح الفاشل على مدينة أم درمان في 10 مايو 2008. كما تواثقوا معاً على برامج لبناء الوطن الجديد بعد زوال الإنقاذ في عهود بلا حصر. وتحملوا أذى كثيراً من حكومة الإنقاذ التي أوغر صدرها وضع القوى المدنية يدها مع مسلحين في حرب دائرة ضدها. وأغضب الحكومة أيضاً توقيع القوى المدنية على ميثاق “الفجر الجديد” (2013) مع قوى الهامش المسلحة. واتخذت إجراءات عقابية على من عاد من تلك القوى للسودان. ولم تمض شهور قليلة على توقيع الميثاق حتى هاجم المسلحون مدناً وقرى في وسط ولاية كردفان واختاروا له اسم “الفجر الجديد” بلا وازع.
إن فجيعة النهر والبحر في مسلحي دارفور كبيرة. فكسر خاطرهم رؤيتهم عائدين في رفقة محمد حمدان دقلو، قائد الدعم السريع، ورعايته وهو الذي أوسعهم حرباً وقتلاً كان آخرها في معركة قوز دنقو (2016) التي وصفها إعلام الإنقاذ بأنها نهاية حركة العدل والمساواة. وبدا لجماعة النهر والبحر ذلك خذلاناً كبيراً لهم في حين لم يجف على لسانهم بعد هتافهم “يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور”. وكان الهتاف رداً على مسؤول في حكومة الإنقاذ قال خلال ثورة ديسمبر إن مسلحي دارفور المندسين في المظاهرات هم من أطلق الرصاص على بعض شهدائها.
رأينا أبو القاسم يطلب من صفوة الهامش ألا يحكموا على أهل الشمال بالإنقاذ لأنها ليست قدرهم. وصح، من الجانب الآخر، ألا يحاكم الشمال دارفور بصفوتها المسلحة. فهي بالمثل ليست قدرها. فكل البلد دارفور متى استنفد المغرورون في المركز والهامش عمرهم الافتراضي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.