ورشة اتفاق سلام جوبا: النيء للنار (1-2)

0 55
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
متى استمعت إلى جلسات من ورشة مناقشة اتفاق سلام جوبا (أكتوبر 2020) التي انعقدت في الأسبوع الماضي لاستكمال عدة الاتفاق الإطاري بين قوى الحرية والتغيير (المركزي) وأحلافه وبين العسكريين في ديسمبر 2022 لسألت: ما الفكرة منها؟ ويزداد السؤال إلحاحاً متى علمنا اعتزال حركة العدل والمساواة وجيش تحرير السودان-مني مناوي، من الأطراف الموقعة على الاتفاقية، للورشة جملة وتفصيلاً لأنه ترى أنه، إذا عبثنا بعبارة مألوفة، “تقييم من لا يملك لمن يستحق”. وحتى الجبهة الثورية، الطرف الثالث في اتفاق جوبا من جهة الحركات المسلحة، جاءت تجرجر رجليها لتقييم الاتفاق لتصرح بأنه لا تعديل للاتفاق ولا إلغائه الذي يلوح به البعض مثل الحزب الشيوعي. فغير خاف أنه سيكون دون بيع مخرجات هذه الورشة للحركات المسلحة خرط القتاد.
ليس واضحاً من هذه الورشة إن كنا بصدد محاكمة اتفاق جوبا ناظرين إلى سوءة طرف الحركات المسلحة بخذلانها الثورة حين رمت بثقلها مع العسكريين بما في ذلك الوقوف مع انقلاب 25 أكتوبر 2021. علاوة على الاعتقاد السائد بأنها أساءت استخدام السلطات التي وفرها لها
الاتفاق. أم هل نحن بصدد التعاطي مع الاتفاق كعثرة حوكمية نريد تشخيصها، والكشف عن عللها، وأسباب علاجها.
عرض الدكتور حسان نصر الدين لصورة الحكم ومستوياته واختصاصاته في اتفاقية جوبا عرضاً حسناً من واقع خبرته كعضو على مائدة التفاوض. وربما كان حسان من القلة التي استصحبت نص الاتفاق في تقييمها له. فبلغ إهمال النص حداً صاحت به مقررة لجلسة ما في الحضور: “من قرأ وثيقة الاتفاق؟ أرفع يدك”. ولكن عطل حسان الحكم على الاتفاق وبخل دون وضع يده على ما ينبغي تصحيحه من وجهاته ومواده.
هذا الامتناع عن الحكم على الاتفاق أثر على حسان من ثقافة المؤسسة (corporation) لا يجرؤ الواحد منها على نقد حصائد يديه. فتجده يتعلل دون ذلك بمعاذير. فعطل حسان الحكم، في قوله، لأن الاتفاق لم يجد حظه من التنفيذ. وعليه يكون تقييمه، والحال هذه، ضرباً من الحدس. وقال في هذا المعنى إن هناك اتفاقات رديئة يشيلها التطبيق الجيد لها وهناك اتفاقات حسنة يفسدها التطبيق البائس لها. ومع ذلك لمّح إلى مسؤولية الحركات المسلحة فيما انتهى إليه الاتفاق من بؤس مشاهد فيما جرى تطبيقه منه.
ود المرء لو رأى حسان عواراً في الاتفاق استحق الوقوف عنده في مثل هذه الورشة والتوصية بتقويمه. فاتفق لكثير من الناس مثلاً أن ارتداف حلفاء الحركات المسلحة من الجماعات المدنية التي لم ترفع السلاح في الاتفاق، ونيلها منه بمكاسب لمناطقها عُرفت ب”المسارات” خطأ جسيم. ويكفي للتدليل على هذا الخطأ وقفة قسم كبير من شعب شرق السودان ضد “مسار الشرق” الذي أثار الفتنة بين أهله وضرجهم جفوة ودماً. وتوقف حسان مع ذلك عند عيب المسارات وتجاوزه.
فقال إنه ترتب على دخولها، وهي زائدة دودية سياسية كما رأينا، تناقضات. فثار جدل، في قوله، على مائدة التفاوض بين من رأوا أن يبدأ النقاش بالمسارات وبين من مالوا للبدء بالقضايا القومية. ثم استقر التفاوض على البدء بالمسارات قبل القضايا القومية. وكانت النتيجة تطابق بعض الأحكام في المقامين بصورة مربكة. ولم يُفصل حسان في أمر هذا الازدواج المخل.
وطريق حسان الأخرى لثقافة المؤسسة وتعطيل الحكم على الاتفاق هي التذرع بعدم قيام المؤتمر القومي لنظام الحكم. وهو مؤتمر تقرر أن ينعقد بعد ستة شهور من توقيع الاتفاق ولكنه لم يجتمع إلى يومنا. وكان اتفاق السلام قد أحال إليه مسائل كبيرة لم يتوافر هو على حلها. وتركوا للمؤتمر تحديد سلطات مستويات الحكم المختلفة، بل كلفوه بمناقشة مسألة الحكم المحلي كلها للمؤتمر. ناهيك بأن مادة قيامه في نص الاتفاق نفسها مربكة. فورد قيام المؤتمر في موضعين منه. ونشأ من ذلك إشكال: بأي صلاحية من الموضعين يكون العمل؟
وبدا من مساهمة حسان أنه لم يكن مقدراً أن تقوم لنظم الحكم وسلطاتها في اتفاق جوبا قائمة بدون مؤتمر الحكم القومي. وهذه إحالة عصيبة ترهن حياة اتفاق بهذا الخطر القومي وموته بمؤتمر لاحق له. فكأن الاتفاق نيئ في انتظار أن ينضج بنار بعده. وهذا ما نقول عنه النيء للنار.
ونعرض في الحلقة الأخيرة لجلسة التنوع وإدارته على ضوء اتفاق جوبا في الورشة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.