أمريكا وروسيا: التكالب على أفريقيا (2-2)

0 38

كتب: د. عبد الله علي إبراهيم

.

في التكالب الروسي الغربي القائم على أفريقيا تعرض روسيا نفسها للقارة الآن كحليف ضد الغرب بسابقته المعروفة في استرقاق أهلها واستعمارها. وتروج لقبول أفريقيا لها بهذه الصفة بما سماهم أحدهم ب”دبلوماسية الذاكرة”، أي شهادة التاريخ على حسن سيرها وسلوكها حيال أفريقيا. فخلافاً لأروبا خلت صفحة روسيا من إثم الرق الأفريقي. كما تذيع سابقتها، ممثلة في الاتحاد السوفيتي، في الوقفة مع نضالات القارة للتحرر من الاستعمار الأوربي. وتعرض حتى حربها لأوكرانيا اليوم كتحرير للروس من رعاياها وتحرير أوكرانيا نفسها من براثن الغرب.

جاءت حرب أوكرانيا لروسيا ب”دبلوماسية ذاكرة” مضادة. فإن عرضت لأفريقيا بتاريخ خلا مما يشينها مع القارة نبش خصومها سيرة استعمارها المسكوت عنه. فأمريكا، في قول هؤلاء الكتاب، لا تستنفد كل ظلم للإنسان لأخيه الإنسان. فذ كروا لروسيا استعمارها المهين لشعب البرويات وغيره في سيبيريا منذ 1600. كما ذكروا لها استعمارها لشعوب في القوقاز في مثل داغستان وشعب الطوران حتى أن الرئيس الأوكراني زلنسكي ذكّر الروس مؤخًرا غزوهم للقرم وكيف جرعهم شاميل، قائد مسلمي القرم، غصص الهزيمة في ثلاثينات القرن التاسع عشر.

ونوه أحدهم بحقيقة أن روسيا لم تفقد إمبراطوريتها بعد الحرب العالمية الأولى كما حدث لتركيا العثمانية والنمسا-هنغاريا. فاسترد الاتحاد السوفيتي لروسيا الوريثة الدول التي استقلت عنها بعد الثورة البلشفية في 1917. فأعادت روسيا لحظيرتها كل من أوكرانيا وروسيا البيضاء وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان. ناهيك من استبدال ستالين لسكان جزيرة القرم بروس وتغييرات ديمغرافية أخرى كثيرة. وفي حين تحررت معظم المستعمرات الغربية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي بقيت مستعمرات روسيا، في قول الكاتب والناشط الروسي ألكسي كوفاليف، حتى انهيار الاتحاد السوفيتي. ولم تستسلم روسيا مع ذلك. فاستردت شيشنيا وتحارب اليوم أوكرانيا التي تنفي العقيدة الوطنية الروسية أنها كانت في أي يوم من تاريخها غير جزء من روسيا.

وكل مطلع على تاريخ الاستعمار الأوربي لأفريقيا سيجد أن روسيا قد تتمثل الآن أقبح وجوهه قاطبة. فتعيد استثمارات مرتزقة فاغنر الروسية ذكرى شركات الامتيازات التي كانت كلفتها دول أوربية استعمارية في أول عهد استعمارها أن تدير مستعمراتها نيابة عنها. فتطلق يدها بذلك في موارد المستعمرة وسكانها لقاء جعالة مالية معين تدفعه الشركة لخزينة تلك الدولة. وبلغت تلك الشركات من فرط الاستغلال والفظاظة حداً استفز كثيراً من الأوربيين. ونجح أولئك أخيراً في حظر وكالتها عن الدولة المستعمرة بالكلية. وكانت الكنغو، المستعمرة الشخصية للملك ليوبولد الثاني ملك البلجيك، معرضاً فاضحاً لممارسات تلك الشركات وجشعها حتى كتب مارك توين كتابه “محادثة الملك ليوبولد لنفسه” عن بشاعتها.

وتعيد فاغنر، بحربها خصوم حكومات أفريقية مباشرة مثل أفريقيا الوسطى أو بتدريب جنودها على مثل تلك الحرب، واقعة استعمارية مؤسفة معروفة ب”الاخضاع” بعد الغزوة الأولى للمستعمرة. فبعد غزو الدولة الأوربية لموطن أفريقي معين تبقى تتربص بكل مقاوم لها فتسحقه سحقاً. فضرب الإنجليز مثلاً قطيع أبقار شعب النوير في السودان من الجو بالقنابل في 1920 لتجويعهم ولإنهاء تمرده فإخضاعه لإرادتهم.

إذا كانت روسيا قد تغيرت كثيراً وللأسوأ فأمريكا، في قول أحدهم، لم تتغير. فلها نازعها الوصائي، إن لم نقل الاستعماري، على عرضها لنفسها كسادن الديمقراطية ورفيق الماشي في دروبها. فلم يَحُل عقدها لمؤتمر قمة للديمقراطية في أفريقيا (ديسمبر 2021)، الذي استدبرت به إهمال إدارة الرئيس دونالد ترمب للقارة، من أن تصدر قانوناً بالأمر العالي للحكومات الأفريقية في ذيول حرب روسيا على أوكرانيا هو قانون مكافحة نشاطات روسيا الضارة في أفريقيا (أبريل 2021). والقانون صريح في القول بأن على أفريقيا أن تختار بين أن تعمل مع العالم الحر، أو مع مجرمي الحرب الروس. وعرّف القانون النشاطات الضارة هذه بالعمل لتخريب أهداف الولايات المتحدة ومصالحها، والتعدي على موارد الإنسان الإفريقي وحقوقه الإنسانية كما تفعل عصبة فاغنر الروسية، وخرق المقاطعة لروسيا وتمويل الحرب في أوكرانيا. وسيطال القانون حكومات القارة إن خرقت حدود أمريكا. وبدا القانون كردة فعل على سلبية نسبية في تصويت دول القارة في إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا (27 مع القرار، 17 ممتنع عن التصويت أو غائب، وصوت ضده). وعليه فهو هو سوق بالعصا دون مزاعم أمريكا بالديمقراطية.

وأروبا والغرب في طورهما الثالث في التكالب على أفريقيا، نعود هنا لكلمة الترابي عن موقعنا المستقل من هذه المنافسة في استقطابنا لطرف دون الآخر. ويأتي هذا الطور وصفوة الحكم في أفريقيا قد بلغ بها الإنهاك والاستقطاب حداً قال به ألكس دي وال، الخبير بالشأن السوداني، منذ أكثر من عقد إن الطاقة وراء السياسة السودانية هي الغضب. وما الذي تنتظره لبلد محرك طاقته الوحيد هو الغضب؟ وصارت هذه الصفوات من فرط الانهاك عالة على الأوصياء من حيث جاؤوا طالما كانوا على هواها السياسي. فخف في هذه الصفوات الحاكمة وازع وطنية الجيل الأول كما ضعف عاصم عدم انحياز الجيل الثاني. فاتصفت هذه الفئة اليوم بنوستالجيا للاستعمار الذي أوجدها هي نفسها أول مرة. وترى في عهده، حين تقارنه بالخرائب التي انتهت إليها في كثير من بلادها، عهداً ذهبياً. فتجد من يكتب “سودانيون وإنجليز: الوجه الإنساني للعلاقة التاريخية” مثلاً عن شيم الإنجليز الغراء فينا. وهو الكتاب الثالث إحصاء عن إنسانية الإنجليز في العقود الأخيرة.

إذا صحت القراءة من توزع الصفوة السودانية الحاد اليوم بين تعلق بالوساطة الغربية وبين معاد لها روسي الهوى فلربما كنا أبعد ما نكون الآن بعد نحو 75 عاماً من المقعد المستقل الذي طلبه لنا الترابي من صراع الغرب والشرق من حولنا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.