في الطقوسية السياسية: “من حق الشعب ان يعرف كيف تدار شئونه او بالأحرى لا تدار”
كتب: محمد فاروق سليمان
.
صاحبت الاديان كثير من طقوس العبادات والتجبيل للالهة، ومهما تعددت هذه الطقوس وتنوعت ربما عكست درجة من تطور الدين نفسه، لكن تقديس هذه الطقوس والاستغراق فيها ظل شكل من اشكال الانحطاط الديني التوحيدي والانصراف عن غاياته لوسائله، والانشغال بمشايخ الدين وكهنته ومرضاتهم عن مرضاة الرب وتقواه، فتصبح هذه الطقوسية نفسها واحدة من ادوات الشرك، وطريق للضلال لا التقوى، اذا اخذنا من غايات الدين الايمان والهداية،..
تتحول الدعوات للديمقراطية والمدنية ومظاهر ممارستها ايضا لطقوسية سمجة لا علاقة لها بغاياتها في نشر الحرية والتبشير بالمساواة وتحقيق العدالة الاجتماعية، والعيش بسلام في هذه الارض. واذا قلنا ان للدولة غاية فهي تحقيق الحياة الافضل لمواطنيها، وكون الحق في الحياة الافضل حق انساني اصيل، ظل تطور اي نظام سياسي هو بحث دايم عن افضل الفرص لتحقيقه، والذي في ظل اي انحلال سياسي يمكن ان يتحول لفرص لتعظيم حظوظ الافراد وقادة الانحطاط، وليس تحقيق الجدارة والابتكار، في ظل غياب المساءلة الجادة وحكم القانون العادل الملزم، ومن نافلة القول ان الثورة السودانية لم تمتلك عصاة موسى لحل ازماتنا المتناثرة منذ ميلاد الوطن، ولكنها كانت تراضي واسع حول المنهج لامتلاك الجميع الحق في ايجاد حلول لهذا المشكل والخروج من ازمتنا الوطنية، ولم شمل هذا الوطن بعد ان اضاعته ممارسة سياسية سيئة لستة عقود، كان لها ان تكون تجربة وجب توظيفها لميلاد جديد، لا اعادة انتاج ازماتنا بقادة جدد.
من الممكن ان نحتفي باي من اشكال هذه الطقوس في مؤتمرات الاحزاب وانتخاب النقابات كملمح من ملامح من الممارسة الديمقراطية والحياة المدنية، لكنها لن تفرق عن وجود جيش يهدد اول من يهدد حياة مواطنيه، لا حماية امنهم، وجهاز خدمة مدني يخدم اول من يخدم نفسه، لا الواجب في خدمة المواطنات والمواطنين، وقضاء يحرس السلطة ويكرس لامتيازاتها، لا يحمي الحقوق ولا يصون الحريات. وستكون ادوار أي من ملامح الحداثة المحشورة في مجتمعاتنا اداة جديدة من ادوات القهر لهذه المجتمعات وتناسل العنف بحقها، وفق قوانين السلطة وهياكل الدولة والتي في حقيقتها استمرار لدولة الاستعمار التقليدي، واستنساخ لوظائفها من خلال نخب وطنية متواضعة القدرات ووضيعة الهمة، عدمت الاصالة لامتلاك الرؤية الثاقبة لانعتاق امتها وتحررها، ونمو شعوبها ونهضة بلادها، فاكتفت بممارسة طقوس الحياة المدنية ومظاهر الديمقراطية.
فصارت النقابات بديلا عن الرؤية السياسية الملهمة*، كون السياسي عبرها قد حملته الجماهير امرها كله، في ظل غياب المصنع والمرفق الذي يقوم على حماية حقوق العاملين فيه، أو غالبا لحماية امتيازات المهنة لتاكيد طبيعة جهاز الخدمة المدنية الموروث من المستعمر كونه لخدمة امتيازات موظفيه. والاحزاب وصيةً على المشاركة الجماهيرية في ظل غياب توافقنا على المصلحة العامة ومصالح البلاد العليا، فاكتفت احزابنا بتعريفها الناقص للقيم العليا، وبتمثيلها المنقوص للحد الاعلى، فصارت دعوتها للديمقراطية وفق حيلة توافقات الحد الادنى مكاءاً لا يقبل الاحتكام لصناديق الاقتراع في الفضاء العام، فاكتفت على اكثر تقدير، وفي فضاءها الخاص، بمظاهر انتخاب قادتها لا مساءلتهم وتعزيز سلطة افرادها لا تهديدها، فلا هي تقدر على المحاسبة ولا تحقيق الجدارة كما لا يمكنها ان تقبل بالديمقراطية في الفضاء العام، وفق هذا الاحتفاء بذاتها لا واجباتها.
وفق هكذا طقوسية في ممارسة السياسة، يكون رجل السياسة اكثر ضلالا من رجل الدين الذي يقدم نفسه على المعبود، وكما يكون تقديس الشعائر باكثر ممن تبذل له شركاً، يكون هذا الاحتفاء بهيبة الدولة وقدسية الحزب وثورية النقابة وبالا على المواطن، وتصبح الدولة نفسها طقوسية، محضة، تحتفي فيها النخب بانتصاراتها علي بعضها وتزهو بجمال ذاتها وتلعن رجعية الجماهير التي لا ترى هذا البهاء وتصر على الخروج الى الشوارع وفق طقسها الخاص بها،
وإن شئتم، الجماهير اولى بالطقوس في ظل غياب النظام السياسي الرشيد، الذي لن يغني عنه ادائكم هذا، وإن هدد وجودنا جميعا “طقوسية” السياسة التي صارت الى “طقوسية” الدولة نفسها.
_____________________________
*كتب السياسي السوداني صالح محمود اسماعيل، “اكتوبري انتمى للحزب الوطني الاتحادي قبل ان يفصله لاحقاً الزعيم اسماعيل الازهري”، مقالاً مهم بعنوان “من حق الشعب ان يعرف كيف تدار شئونه او بالأحرى لا تدار” عن مفهوم غياب القيادة السياسية الملهمة والاستعاضة عن ذلك بالقيادات النقابية واساتذة الجامعات كملمح من ملامح الضعف في ثورة اكتوبر ، والغريب انه ردد بطريقة ما كون الجماهير تقدمت النخب، او الثورة فعلها سبق عقلها. وهو ملمح في الثورات السودانية تناسل خلف دعاوي وحدة القوى الديمقراطية والجبهة العربضة دون بحث في ماذا نتوحد، فانجبت تحالفات النحيب العريض كما اميل لتسميتها. وان بدا من المهم الاشارة الى ملامح تغير هذا الان، فالوحدة كيفما اتفق لم تعد الحيلة التي يمتطيها الساسة غير الملهمين.