تاج السر الملك.. الجذب القلق إلى مناخات الفنون

0 79

كتب: صلاح شعيب

.

لتاج السر الملك مقدرة فائقة في التنقل كفراشة بين فرع الموسيقى، وزنبقة الرسم، والتصميم الإيضاحي، وضوء الكتابة الحرة التي لا تنشغل بمجال واحد. ومع ذلك ظل أسلوبه محافظاً على صحافتيته التي كانت نقطة تعارفنا قبل اكثر من ثلاثة عقود. إذ كان يحرر في النصف الثاني من الثمانينات صفحة تجمع بين الثقافة والفن فيما كنت محرراً رياضياً بذات الصحيفة – السوداني الدولية. رأس تحريرها الأستاذ عبدالرحمن إبراهيم الذي كان يكتب عموده الرشيق “شيء من الفن”، حيث استعار تاج السر عنوان العمود اسما للمؤلف الجديد الذي جاء في ٢٢٣ صفحة من القطع المتوسط.
فود إبراهيم كان يغوص بقلمه الفنان في أعمال عثمان حسين، ويذكر الناس بجاز عثمان ألمو، وللدراما مكانة في ذلك العمود الذي كان يسميه الصحفيون خمسة كور، وهو خلاف العمود الصحفي المضاعف المساحة الذي يصبح عشرة كور حينما كانت كلماته تطبع بالآلة الكاتبة قبل حلول زمان الكمبيوتر. وذلك العمود الذي كان يكتبه ود إبراهيم ثم شغل مساحته تاج السر لردح من الزمن قبل هجرته التي دامت أكثر من ثلاثين عاماً في أميركا كان ضرباً من أدوات الصحافة الفنية خدم بشروط زمانها. الأساتذة حسن مختار، والنعمان على الله، وطلحة الشفيع، ومحمد عمرابي، وسليمان عبد الجليل، وميرغني البكري، وعزمي أحمد خليل، ونجيب نور الدين، والتيجاني حاج موسى، وأحمد نصر، وآخرون، كانت لهم سطوتهم في تحرير الصفحات الفنية، وكتابة العمود الذي يبشر بأغنية جديدة، أو يتناول مغنياً، أو ممثلاً، بالمدح، أو القدح. وأحيانا ً يعتمد العمود على شذرات من هنا وهناك ليشكل ذاته كمادة منوعة في ركن من أركان الصفحة الفنية. وما يزال الجيل التالي يتمسك بالعمود كأداة للتعبير الانطباعي الطليق عن الغناء، والدراما، والذي لا يستند على مرجعية علمية بالضرورة، خلاف الانطباع الذي يحرك كاتبه. والحقيقة أن الموسيقيين والمسرحيين يشكرون نقد كتاب الاعمدة لو مدح أعمالهم، ويقللون من قيمة هذا النقد إذا طالهم بالسلب. وعندئذ ينطرح الحديث عن الانطباعية تقليلاً لقيمة هذا المكتوب القادح. فمن زاوية يغفل بعض الموسيقيين والدراميين طبيعة الصحافة الفنية. ومن زاوية أخرى يغفلون أهمية الانطباع كمدخل لفهم ما يتعلق بالحواس. بل إن انطباع المتلقي هو الحكم المرجو بإلحاح في خاتم المطاف. فلا يعتلي القمة الفنية سوى من نصبه الجمهور، وليس بعض النقاد الموسيقيين، أو الدراميين. ومن خلال التجربة وجدنا الدارسين لعلم الموسيقى والدراما هم الأكثر اختلافا في تحديد المعايير في الحكم الفني، ذلك لأن تذوقهم غير محايد علمياً، كما أن حكمهم لا يتأتى خارج انطباع العمل في داخلهم أولاً.
ومن هنا تكمن فكرة العمود الفني، إذ هو تذوق كاتبه الذي عرفته الصحافة كوسيلة من وسائلها في إثارة جدل القراء المهتمين بالفنون، لا أكثر ولا أقل. وهكذا شدد التاج بأن كتابه ليس بحثاً أكاديمياً، أو دراسة نقدية.
-٢-
“شيء من الفن” الذي أصدره تاج في مستهل هذا الأسبوع – كما أحب مناداته – لا يعني أنها كتابة على هواها. بمعنى أنها لا تقوم على ساق بالمعرفة بشؤون الغناء، والموسيقى. فالمؤلف له ذاكرته السماعية التي عمقها بالمعايشة، والاهتمام بالغناء السوداني، ورصده. وأضاف إليه تذوقه اللا المتناهي للموسيقى الغربية، وخصوصا الأميركية. وتاج يعزف الجيتار أيضاً. وما رأيت إذ رأيت سودانياً عارفاً بالموسيقى الأميركية من لدن البلوز، والكانتري ميوزيك، والهيب هوب، مثل تاج. ويكاد يبز أميركان كثر بهذه المعرفة التي نماها بالحصول على أسطوانات، واقتناء السيديهات، ومتابعة الإذاعات المتخصصة، والمجلات.
كتاب تاج السر الملك الجديد الذي حمل عنوان “شي من الفن” والذي دشناه في أمسية شتوية لطيفة بفرجينيا بحضور زمرة من أصدقائه من مشارب شتى – ضمنهم فنانون، وقراء، يهيمون بحرفه – جاء ليضيف لإصداراته المتعددة التي منها الأحمسة، ثم الهلوسة، والدغمسة، والذي تجري مادته مجرى الكتابة الساخرة، والطريفة، التي تبني في تراث “الاستراحة الصحفية” للأيام والصحافة. إذ كانت تضم عماليق كتابها الميامين أمثال ابن البان، وصلاح مطر، وعبدالله الحسن، وآمال عباس، ومحمد عبد الله الريح، وصلاح يوسف، وأبو آمنة حامد، ومحيي الدين محمد علي، وغيرهم. وهكذا ظلت الروح الصحافية عند تاج السر محركاً أساسياً في كل كتاباته. فهو من جهة لم يتوقف عن متابعة الغناء السوداني بشغف، وله فهوم كثيرة عنه، من زوايا نقدية تنطلق من تذوقه المعرفي، ومن الجهة الثانية يبحث في كتابته الحرة عن المفارقات، والطرائف، في الشخصية السودانية المهاجرة عند اصطدامها ببيئة العم سام. وكل ذلك يخرجه تاج بأسلوب صحفي خلق له عددا كبيراً من المعجبين.
-٣-
التاج الرسام، أو المنشغل بكل ما يدخل في الفن التشكيلي، هو فنان قلق بالمعارف. ومساهماته في هذا المجال نمتها دربة، ومران، ومقاربات، وحوارات، وتأملات. وهكذا ظل في العقود الأخيرة منشغلاً في مرسمه بإكمال لوحة جديدة، ووضع أغلفة الكتب لمؤلفاته، وآخرين، وتصميم البانفليت، والشعارات، واستخدام التصوير كأداة لإبراز موهبته في التقاط الحدث، والمنظر، ومن ناحية ثانية توظيف استديو له بجانب أعماله الأخرى التي تعينه في كسب الرزق.
القدرة على الحكي من تعدد المواهب عند الأستاذ تاج السر الملك. ولديه مجموعة قصصية بعنوان “نخلة لا تنبت والابنوس”، ورواية “أفق الأرجوان”. وكوني لست ناقداً متخصصاً أصلاً للعمل الروائي فإنني أحس أن جماع فنون التاج لا بد قد انعكس في لب أعماله القصصية، والروائية، وإلى الآن تحتاج هذه الأعمال إلى التشريح لأنها تدخل في أدب المهجر السوداني. إذ يمكن القول إن الروايات السودانية التي صدرت في خارج البلاد ربما تفوق ما يكافئها في الداخل في السنوات الأخيرة.
على أن تاجنا الذي ما برح يتنقل بهمة الفراش ليلون كل فن بروحه المتمردة على كثير من مسلماتنا لا يقف عند حدود فن دون غيره لفترة. فهو مجذوب بحدة، إلى مناخات الفنون في سحابة يومه، وأطراف ليله.
فالقارئ لمؤلفه الجديد “شيء من الفن” يرى التاج مجذوباً إلى الدخول في مواضيعه متدرعا بمعارف فنية شتى عمقها الانفتاح على الثقافة الأميركية، والإنسانية، ومن ثم المقاربة بين الثقافتين السودانية والأميركية.
فالكتاب السلس اللغة رغم حصره عند أسوار الغناء والموسيقى يكشف عن تعليقات على مجمل رموز فنية، وثقافية، انطبعت في ذاكرة التاج. ومن بين الذين كتب عنهم تجد شرحبيل، والبلابل، وبلوبلو، ووردي، والكابلي، وعركي. وفي أحايين أخرى يعلق الكاتب على مواضيع متصلة بالملحنين، والعازفين، والإذاعيين.
هنيئاً للصديق تاج السر الملك هذه المثابرة في الكتابة، والعمل التشكيلي، ومزيد من المواصلة في تحقيق التنوير الثقافي.

 

تاج السر الملك

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.