مال الاغتراب والأفيال
كتب: جعفر عباس
.
عندما دخلت الحياة العملية، كان راتبي الشهري 45 جنيها (نحو 100$)، وخشيت على نفسي من الانحراف، ولهذا كنت أسلم أمي 25 جنيها منها، وعندما هجرت التدريس والتحقت بالسفارة البريطانية في الخرطوم صار راتبي 92 جنيها (ما يعادل راتب وكيل وزارة في ذلك الزمان)، فحدثت طفرة: ارتفع عدد قمصاني الى 8 والبنطلونات الى 6 وتعلمت ربط الكرافتة، وهجرت البصات وصرت اركب التاكسي، وصرت أتناول الغداء اربع مرات في الشهر في فندق الشرق الذي كان يعد اجمل قاورما بلحم من بيت الكلاوي.
وعدت الى التدريس وابتعثوني الى بريطانيا، وعدت منتج برامج تعليمية في التلفزيون، وكنت اتقاضى 82 جنيها من وزارة التربية و40 جنيها من التلفزيون و35 جنيها من التدريس في فصول اتحاد المعلمين المسائية، حيث اصطادتني احدى طالباتي، وطلبت يدي و”قبلت”، وقلت لها: لعلمك في هذه اللحظة مدخراتي صفر، “وما في حل غير نبني عشنا يا قماري قشة، قشة”، ووعدتها بتسليمها 20 جنيها شهريا كي تشترك بها في “صندوق” ثم تقول لي عوووك عندما يجتمع لديها مبلغ يغطي تكاليف الزواج، ولكن وبما أنها كانت تعرف تفاصيل دخلي الشهري فقد طالبت ب60 جنيها شهريا لمشروع الزواج، وفكرت في الانسحاب التكتيكي منه ثم لعنت ابليس وقبلت بذلك الشرط التعسفي، وبعدها بنحو 6 شهور كنا قد اشترينا الأثاث اللازم، ثم ستة شهور أخرى وحصل الزواج، ثم بدأت أوضاع البلاد في التدهور عموديا، ومع تأكيد حملها بطفلنا الأول التحقت بشركة أرامكو في السعودية براتب 4821 ريالا، وكانت تلك أول مرة أتعامل فيها بالألف في أي شيء خارج مسائل الحساب.
ومن أرامكو تسللت الى قطر براتب افضل، ثم تسللت الى الأمارات براتب أعلى، ثم عدت الى قطر بشروط خدمة أفضل، ثم التحقت بالبي بي سي في لندن براتب هزيل نسبيا، وكانت غايتي فقط اكتساب خبرة في العمل في مؤسسة إعلامية محترمة، وكانت تضحية تستأهل لأنني عدت بعدها الى قطر لألتحق بقناة الجزيرة، ورغم كل تلك النطنطة كانت مدخراتي صفرا كبيرا، فلأنني سوداني اصيل في دمه يجري النيل، لم أكن أؤمن بالتخطيط، ربما لأننا ننفر من كلمة آخرها “طيط”، وكنت اضع راتبي تحت قمصاني في خزانة الملابس وأسِل منه كيفما اتفق، حتى يأتي يوم لا يبقى فيه معي من المال شيء أو “شوية فكّة”.
فما حدث معي ويحدث مع غيري هو ان تأتي الترقية ويرتفع الدخل الشهري، فتأخذ الكماليات ترقية الى ضروريات، وتعليم العيال صار عالي الكلفة وهم لا يرضون الذهاب الى المدارس حاملين التمر في جيوبهم، او معهم بضعة قروش ليشتروا الطعمية والزلابية من بائعات يجلسن في أركان المدارس، وبعد ولادة طفلنا الرابع فتحها الله علي وتلقيت عروضا سخية لكتابة المقال اليومي، فصار دخلي الإضافي منها أعلى من راتبي الرسمي، وبدأت ام الجعافر النقنقة كي أقتني بيتا، وطاوعتها وامتلكت بيتا يقف معظم شهور السنة خاويا مثل اهرامات البجراوية، لأنني وفور انتهاء الإجازة أغلقه بالشمع الأحمر، رافضا تأجيره باي عملة حرة او “فِرّة”- بكسر الفاء- لأنني أعلم كم يعاني من أجروا بيوتهم لآخرين في بلد تتصاعد فيها الأسعار عموديا، وتهبط فيها قيمة العملة الوطنية صاروخيا على رأس الساعة.
عبر السنين اختفى من حياتي أصدقاء من عشرات الدول لأنهم اغتربوا بموجب خطط مدروسة جمعوا خلالها أموالا تجعلهم يعيشون ميسوري الحال في بلدانهم، ونحن نجمع ويطؤها الفيل الافتراضي، في بلد سوقه مثل جهنم كلما ألقيت فيه نقودا صاح: هل من مزيد، ويصبح الاغتراب للملايين “مفتوحا” إلى ان يقضي الله امرا كان مفعولا.