خليل إسماعيل: للصوت عبير، وللنفس أريحية
كتب: صلاح شعيب
.
موقفان أحسهما خليل إسماعيل بأنهما محرضان للانتصار لنفسه الفنية. ولذلك حفزاه بأغنيتين مميزتين ضمن تحليقه في مداره الفني من سفح البدايات إلى الذرى الفني. في حوار مع الكابلي قال إنه أنهى جولته التفقدية للجمال في سهول، وشعاب، الجبل العتيق بحمام في إحدى شلالات نيرتتي. قليلاً ما لبث أن وجد نفسه في استراحة زالنجي لكتابة خاطرة عن هذه البيئة الساحرة التي أودعها الرحمن في جغرافيا دارفور المتنوعة.
تواتر المقطع الأول فأخذ الكابلي يناجي أرواح أجداد أمه الفور ليسعفوا حيلته فأتاه الإلهام أكثر فأكثر حتى أخذ بتلابيب المدخل.
أنهى الكوبليه الأول ثم طفق يبحث عن ثانٍ، وثالث. وفي غمرة هذا الاستلهام سمع أبو عركي دندنةً تخرج من الصالون. فساقه عبير النغمة إلى حيث يدندن الكابلي. جلس بجواره منصتاً بأدب لهذا النغم الأخاذ دون أن يصدر منه نميم يشتت حضور الكابلي الشارد. ولما تحقق عركي من مسار العمل طلب من الكابلي أن يمنحه هذه الأغنية بطيب خاطر. فتمتم الكابلي الذي كان قد استدعى منظر ثمار الصنوبر بنوعيه الاثنين يتدلى من شجرته القصية فوق تل عالٍ من الجبل المخضر.
دخل خليل بعد هنيهة على الخط فيما كان عركي يتحسب حتى لا تختطف منه الصيدة في حضوره المؤدب. ولكن عركي طلب الأغنية لما رأى الإلهام قد تمكن من شاعرها، وملحنها، ومردد النغمة أمامه. ولكن خليلاً ظل في صمته الملائكي، ولم يقل شيئاً. ولما أكمل الكابلي حضرته الفنية رأى أن خليلا ربما لديه من الغناء ما جعله يثبت به أقدامه. وبأريحية قرر الشاعر، والملحن الجهبوذ أن يذهب العمل لعركي الذي كان ينمي دفقاته الإبداعية الأولى.
والحال هكذا اضمر خليل تخطيطاً لشيء آخر ينافس به زميله ليُعرف أيضاً بخلب الجبل يوماً ما. نام الفنانون في استراحة زالنجي لتكون وجهتهم لاحقاً إلى الفاشر في تلك الرحلة التي خصصت حتى يعود ريعها لصالح محاربة العطش في الإقليم. ركب ثلاثتهم، ومعهم بشير عباس، وكمنجست آخر في اللاندروفر، وعازف إيقاع، متخطين وعر الطريق الذي يناقضه سحر المنظر. يتجاوزون نهاراً سهلاً، وقوزاً عصياً في الليل المقمر حتى إن تصاعدت جدية السائق الماهر في الاحتيال على رمال “أبو زريقة” أدرك جميع الراكبين صباحاً في الفاشر.
لقطع اليقين أكمل الكابلي البروفات ثم أهدى الأغنية لعركي لتقديمها في سينما الفاشر لأول مرة في تلك الليلة التي تمت فيها دعوة الجمهور. وما إن استلم عركي وصلته من الجوقة، وأكمل الكوبليه الأول حتى ضج الجمهور بفرح غامر. فقد ملأهم السرور أن هذا المورد الهام الذي يلهج الناس بلسان يجله – وإن لم يروه – قد تحول إلى “لوحة فنان” تكافئ ذلك المناخ الساحر المتسلسل الذي يغطي مساحة اثني عشر الفاً وثمانمائة كلم. ويعد الجبل ثاني أعلى قمة في السودان حيث يبلغ ارتفاعه عشرة آلاف قدماً فوق مستوى سطح البحر:
مرسال الشوق يا الكلك ذوق
أغشي الحبان في كل مكان
قول ليهم شفنا جبل مرة
بعد عودة الفنانين إلى أمدرمان ذهب خليل عصراً إلى أبو قطاطي الذي لم يكن طرفاً في أتون القصة. حكى له عن قلول، ومرتجلو، وأريل الملم. ولأن محمد علي أبو قطاطي كان قد عرف بتلبس حالة وردي الشاعرية المحكاة جاء بعد أيام لخليل يحمل تصور القصيدة ففرح بها، وأضاف لها في الصياغة، ولحنها. فانتصر خليل لنفسه أيضاً، بذات الطريقه التي بها انتصر عركي. ولكن الحقيقة أن الجبل الأشم انتصر كذلك لما أكل من خريفي الفنانين المخضرمين مرتين:
لو زرت مرة جبل مرة
يعاودك حنين طول السنين
-٢-
في الحادثة الأخرى قرأ أبو قطاطي ذات مرة لصديقه خليل إسماعيل نصاً جميلاً قال إنه سلمه لأحمد زاهر ليؤديه. ولكن الموسيقار زاهر انحاز إلى كرم الجابري الذي قدم الأغنية:
إنت يا قلبي المتيم كنت خالي
كنت نايم وما رأيت سهد الليالي
ولما سيطر الكلم، والنغم، على مزاج البرامجيين في الإذاعة جرت الاغنية بسرعة على ألسن العاشقين. هذا النجاح المهول لزميله الجابري هز في نفس خليل فذهب إلى أبو قطاطي معاتبا. ولكن الشاعر الكبير فند له براءته من مقالب ذلك الملحن الأسطوري الذي كان قد احتكر حنجرة منى الخير، ونساء أخريات لم يبخلن عليه. ولكن التسوية قضت بأن يقرأ له أبو قطاطي نصاً جديداً أخرجه للتو. تسلمه خليل، وخرج منه لا ينوي على شيء إلا ضرب زاهر، والجابري، من تحت حزامهما الفني. وبعد فترة قصيرة استمع الناس إليه يردد أغنية جميلة تدهش ملحني أمدرمان، وسميعيها، ومحبيها لفترة طويلة، فصار الحبيب الذي يواسي نفسه لا يردد سوى:
الأماني العذبة تتراقص حيالي
والأمل بسام يداعب في خيالي
حلم بكرة وذكرى أيامي الخوالي
وبهذه الكيفية استطاع خليل أن يجاري صديقه الأقرب عركي، وكذا الجابري، فمنح المنافسة الفنية خصوبتها. وذلك كان ديدن الفنانين في فترة كان المؤكد فيها هو الهم بالاستلهام من روح الكلمة بما يوازيها من نص لحني بديع.
خليل كان فناناً يطرب لنفسه قبل الآخرين، وهو على شاكلة العاقب، والجابري، وخضر بشير، الذين يغنون لأنفسهم، وأنت تراهم يعيشون لحظة الطرب بشكل متناهٍ. على أن خليلاً لا تحسه في تمام طربه بالغناء سوى عند البروفات، أو الجلسات الفنية الضيقة. إذ عندها تلحظه قد أطلق العنان لصوته، يخلق منه، وفيه، ملمحاً طروباً، فيلونه كيفما اتفق بشكل لا تجده عند تسجيلاته الرسمية، أو حفلاته العامة. وذات مرة أسعدني الحظ أن أكون في النصف الثاني من الثمانينات ضمن جلسة أصحاب ضيقة بصحبة الصديق المحامي يوسف محمد الأمين. فيها سافر خليل متموجاً بصوته، وجسده الراقص إلى الذوبان مع مكنون فنياته. بدأ في وصلته حينذاك كما لو أنه كان أحد متصوفة حمد النيل الدرواويش الذين تتصل أرواحهم بسماء عليا تفصلهم عن أجسادهم فصلاً روحياً تاما.
كذلك كان خليل في ذلك اليوم حين لم تترصده كاميرا، أو جهاز تسجيل، فوجد روحه قد تحررت من ثقل التوثيق فعاش لحظته متبتلاً في مداره الفني الذي كان يوسعه بالتحليق العارم بنفسه الشاردة إلى مستقر لها.
-٢-
يتفق جملة من الموسيقيين أن المغني أداء، وزمن، يشرد من الصولفيج أحياناً، ويضيف إليه مرات، ويؤديه بشكل خاص عند كل طقس أدائي. ولكنه يغني فوق الزمن، وهنا تكون السنكبة عند الموسيقيين مصطلحاً للتحرر من لوغريثم النغم. ولذلك ضج محمد الامين بتلك الحدة أن الاداء الكورالي معه يسحب منه إمكانية الإضافة التي تأتي في لحظات ينتصر فيها المغني على لحنه الأول حتى. فيضيف بناءً على الحالة النفسية التي تتلبس الصوت والجسد معا. وكذلك الأمر مع العازف الذي قمه أدائه في سلامة التون. فالمغني مثل خليل، والعازف مثل محمدية، هما حالات إبداعية تتلبسهما همة الخروج من ضبط الصولفيج، وتنويته، ووحدة الرزم. ذلك لكي يكون التلوين الصوتي الحر، ونمنمة النغمة الحنينة، أو الحزينة، مدخلاً لتحلية النغم المحسوب، وتنويع ضربات الإيقاع المقرر لإجلاء صفوة الروح الفنية.
خليل تنبع أهميته كمغنٍ مختلف في أن صوته كان مميزاً للغاية. وبعض المحللين الموسيقيين يرون أنه كان يقترب من السبرانو، وأن خامة صوته خلقت سلماً باسمه. ومع أهمية هذه التصنيفات العلمية للأصوات فإن ألحان خليل إسماعيل العذبة ما تزال موئلاً للدرس، خصوصاً أن هناك معلومات تشير إلى أن إبداعه تجاوز الخمسة والخمسين عملاً.
ما يظل مجال حوار هو اختلاف خليل إسماعيل عن زملائه بحيث إنه لم يلتفت إلى تطوير نغمات، وإيقاعات البيئة، وهو الذي ينتمي إلى بيت عريق في كردفان. فبخلاف عمل واحد قدمه عن المنطقة بالعود، وليس الأوركسترا، بذل خليل في كل مشروعه الغنائي البحث عن صيغ تجديدية للأغنية القومية.
الواقع أن خليلاً الذي عرف بطبعه المستقل للغاية أراد تحقيق الاختلاف في المساهمة الفنية للمبدعين الذين يتحدرون من كردفان. ولذلك جاءت مساهمته غاية في الإجادة، ونجح كثيراً ضمن أعماله التي احتوت “يوم بيوم نبيع الكمبا” أن يتمظهر كفنان يُشار إليه بوصفه غير محصور في نطاق معالجاته الموسيقية، وأن هدفه هو ألا يتم تصنيف أعماله ضمن نطاق جغرافي محدد. ذلك برغم أن زملائه الكردفانيين قدموا غناء البيئة، وفي ذات الوقت ساهموا في تجديد الأغنية العاطفية والوطنية بشكل بديع.
أغلب الظن أن خليل إسماعيل كان مجبولاً على تأكيد خصوصيته الفنية، والاجتماعية، على حد سواء، وبالقدر الذي لا نكتشفه إلا في روح أعماله، وأدائها.
.