خطيئة إنشاء الميليشيات من الدرس السوداني

0 114

 

كتب: جمال الطاهات

تُنشأ المليشيا في سياق الاستجابة لتداعي شرعية البنية الاستبدادية، وهي لا تكون إلا وسيلة تفكيك “فهذه طبيعتها”، ولا يمكن لها أن تكون وسيلة بناء لحماية منظومة قائمة وإدامتها. الرئيس السوداني المخلوع راهن على ميليشيا لتحميه، وثبت أن هذه مهمة تتناقض مع طبيعتها. فلا مستوى انضباطها يسمح لها أن تكون وسيلة بناء، ولا آليات عملها تسمح لها أن تكون كذلك، فالمهمة المطلوبة منها (ممارسة القوة خارج حدود القانون) تنسجم مع طبيعتها المتناقضة كوسيلة بناء وإدامة لأي منظومة.

محمد حمدان دقلو -المعروف باسم حميدتي- الذي أنشأ وقاد ميليشيا التدخل السريع، وأطلق عليه الرئيس المخلوع عمر البشير للتحبب اسم (حمايتي)، هو الذي خلع البشير، وما زال أهم عقبة تمنع استقرار السودان وتحوله الآمن نحو الحكم المدني. فهو قريب من السلطة ووسيلة لحمايتها، وخصماً لها وعبء عليها في ذات الوقت.

الدرس السوداني الأبرز هو أن الخضوع للطغاة مكلف أكثر بكثير من العمل على مواجهتهم والتخلص منهم. وأي محاولة لمداراة المستبد الفاسد لن تقود إلا إلى مزيد من التشظي في بنية الدولة، بحيث يصبح إصلاحها لاحقاً عملية أكثر كلفة بكثير من مواجهة الطاغية في أيامه الأولى. فالميليشيات التي يُنشئها الطغاة -وإن جلبت لهم إحساس زائف بالأمان، ضد قوى المعارضة المدنية- تنقلب على من أنشأها بأول فرصة، وتعرض أمن البلاد لمخاطر كبيرة. وخضوع المجتمع المدني لهذه الميليشيات يكلف الشعب ثمناً باهظاً للتخلص منها لاحقاً، أكثر من كلفة منع تشكلها. غياب وحدة وسائل فرض القانون في الدولة، هي الطريق الأسرع لتفككها وانهيارها. فالسيف المستأجر لا يجلب الأمان، ولا يجلب الاستقرار، ولا يصون وحدة البلاد.

بعد رحيل البشير، كانت القوى المدنية -كما الجيش- أضعف من أن تحكم منفردة، وأقوى من أن يتم تجاهلها أو اقصائها سياسياً، وبدت قوة التدخل السريع أداة ضرورية لاستئثار الجيش بالسلطة، إلا أنها فرضت ملامحها على مجمل العملية السياسية للدولة. ولكن سرعان ما تكشف للجميع، أن الجيش يستطيع أن يتفق مع الميليشيا لإقصاء القوى المدنية، لكنه لا يستطيع الحكم بالشراكة معها، كما أنه لا يستطيع الحكم بدونها. ودخل السودان في مرحلة “تعدد السيوف”، حيث مثلت آلية استيعاب ميليشيا التدخل السريع في بنية الجيش الوطني السوداني، أهم بؤرة خلاف، تحولت إلى حرب مفتوحة بعد 18 شهراً من تحالف الجيش معها للإطاحة بالعملية السياسية التوافقية بالشراكة مع القوى المدنية.

تصريحات السفير السوداني في لندن مؤخراً، بالتركيز على وحدة السلاح صحيحة، إلا أنها متأخرة. وعلى الرغم من أن المؤشرات تؤكد قدرة الجيش على حسم المعركة ضد ميليشيا التدخل السريع، إذا توفرت له تحالفات دولية وإقليمية مناسبة، إلا أن هناك ما يؤكد على أن الجيش لا يرغب بحسم الصراع سريعاً، حتى لو كان قادراً. مما يحول مليشيا التدخل السريع إلى وسيلة لتأخير الديمقراطية، أكانت أداة قمع ومشاركة في السلطة، أو متمردة تفرض عملية التخلص منها تأخير الديمقراطية لأوقات غير محددة.

فمنذ اتفاق 14 آذار الماضي، القاضي بإخضاع المليشيا للجيش الوطني السوداني -وهو ما وافقت عليه القوى السياسية المدنية وأقرته في اليوم التالي- بدأ الصراع بسؤال مَن سيسيطر على مَن؟ هل ستقوم الميليشيا بالسيطرة على الجيش من خلال دمجها وتكاملها معه وإدخالها لمنظومته، أم أن الجيش سيقوم بتفكيك الميليشيا وإخضاع من يتم استيعابه في الجيش لقواعد انضباطه المؤسسية؟

غياب القوى المدنية عن يوميات الصراع الحالي، وعدم انحيازها لأي من طرفيه، بالرغم من توقيعها على الاتفاق الذي قاد للاقتتال، ترك طرفي الصراع بلا قواعد شعبية حقيقية، وأكثر انكشافاً للضغوط الدولية والإقليمية، وحول الشعب السوداني إلى مجرد غنيمة يتصارع الطامحون للسيطرة عليه بالقوة. وهذا يوضح مأزق القوى المدنية في العالم العربي، فهي عاجزة عن التحالف مع المستبدين الفاسدين، وعاجزة أيضاً عن اسقاطهم دون وسائل قوة مدنية فعالة، تخلع انياب ومخالب كل من يحاول السيطرة على الشعب ومصادرة إرادته.

نتائج ثورة نيسان 2019، أثبتت أن المستبد الذي أنشأ ميليشيا للتغطية على انكسارات شرعيته، وليحتفظ بالسلطة دونها، كان يفكك مؤسسات الدولة ويدمرها. وحين اقترب الشعب من استرداد دولته، قفزت تلك الميليشيا للواجهة السياسية بعد أن أطاحت بالمستبد الذي أنشأها، وأصرت على تعطيل التحول السلمي نحو النهج الديمقراطي لتداول السلطة، أملاً ببروز طاغية جديد تتلاعب به عبر إيهامه بأنها وحدها من يحميه.

أخيراً، ينتحر الطغاة حين يلجؤون لحماية أنفسهم وإدامة سلطتهم، وتغطية نقص شرعيتهم بالاعتماد على ميليشيات. فأي صيغة تعتمد القوة لإخضاع المجتمع المدني، سوف تنقلب على من أنشأها. وتلجأ الميليشيا، أو أي صيغة قوة تعمل خارج القانون، إلى توسيع هامشها السياسي بمقدار زيادة اعتماد الطاغية عليها، حتى تتحول إلى معضلة بقائها مكلف كما التخلص منها. وهذا يلزم قوى التغيير والحركات الثورية في البيئة المعاصرة أن تتجنب تحت أي ظرف، الاعتماد على صيغ عمل تتصادم مع مؤسسات الدولة أو تهمشها. مؤسسات الدولة ليست للمستبد الفاسد، ويجب العمل على تحريرها من سطوته، كخطوة ضرورية لتمكين شعبنا من استرداد دولته سلطة وموارد وبناء دولته الحقيقية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.