لوثة عداء الكيزان: منزلق ثوري لقفزة في الظلام (2-2)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
لا ترى جمهرة كبيرة من الثوريين في غير الإخوان المسلمين سبباً مطلقاً للحرب. وسميت هذه “لوثة العداء لكيزان” لا شفقة بهم بل لأنها من المؤكد أنها تحول دون حاملها وحكم أكثر إحاطة ببواعث الحرب. وانتهيت أمش للقول أنه ترتب على هذه اللوثة أن اشترى الثوريين من العسكريين (وفيهم الدعم السريع) طوال حلفهم معهم في الحكومة الانتقالية عن “كيزانية” انقلابات ليست كذلك كما اشتروا نظرية حميدتي الحالية بأن القصد من انقلاب الجيش الحالي (أو سمه ما شئت) استعادة الكيزان لملكهم في البلاد. واتضح بآخرة أن تلك الانقلابات الموسومة بأنها كيزانية كانت غير ذلك. بل كانت مما حاول القائمون به الدفاع عن مهنية الجيش. ومن ذلك انقلاب اللواء الركن عثمان بكراوي نائب قائد سلاح المدرعات. فأذاع عنه قادة الجيش والدعم السريع أنه “انقلاب كيزاني” في حين تشير كل الدلائل أن من قام به ضباط مهنيون، لقائدهم بالذات موقف معلن من “الدعم السريع”، لقي الجزاءات من قيادته بسببه.
ففي سبتمبر (أيلول) 2021 أعلن مجلس الأمن والدفاع عن إحباط انقلاب قاده بكراوي، واعتقاله و22 ضابطاً وعدداً من الجنود. وأذاع المجلس بأن الانقلاب من صنع أنصار النظام القديم للعودة إلى الحكم. وأوضح وزير الدفاع، الفريق ركن يس إبراهيم، في تصريح صحافي أن التحريات والتحقيقات الأولية أشارت إلى أن “الهدف منه كان الاستيلاء على السلطة وتقويض النظام الحالي للفترة الانتقالية”، مؤكداً أنه تم إجهاض المحاولة في “زمن وجيز بيقظة وتضافر الأجهزة الأمنية”. واشترت الحكومة الانتقالية ومناصروها رواية العسكريين عن انقلاب بكراوي بلا تعقيب. فقال رئيس الحكومة، عبدالله حمدوك، خلال اجتماع لمجلس الوزراء إن “تحضيرات واسعة” سبقت المحاولة الانقلابية، وتمثلت “في الانفلات الأمني بإغلاق مناطق إنتاج النفط، وإغلاق الطرق التي تربط الميناء ببقية البلاد”. أما المحلل السياسي، عدلان عبدالعزيز، فيعتبر، وفق تصريحاته لموقع “الحرة”، أن “ما حدث محاولة من بقايا النظام السابق لزعزعة استقرار السودان”، مدللاً بـ”محاولات خنق البلاد اقتصادياً، وخلق حالة من الانفلات الأمني بنشر عصابات ممولة من بقايا النظام البائد من أجل تهيئة الشعب لقبول فكرة الانقلاب العسكري”. ولم يتأخر العالم عن تبني رواية العسكريين عن الانقلاب، فندد الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في السودان، فولكر بيرتس، في بيان “بأي محاولة سواء كانت انقلابية أو غير ذلك لتقويض عملية الانتقال السياسي الديمقراطية التعددية”.
ومع كل ذلك ليس في سيرة بكراوي علاقة بـ”الإخوان”، بل خلا هو من السياسة الحزبية، إلا إذا اعتبرت محبته للمشير جعفر النميري رئيس الجمهورية الأسبق، سياسة. واشتهر النميري مع ذلك عند العسكريين بأنه “جياشي”، كما نقول عمن يخلص للعسكرية ويعتز بها ويجيدها، قبل أن يرتكب الانقلاب في عام 1969، ثم الحكم، حتى أطاحته ثورة في عام 1985. وعرف بكراوي بحب القراءة والشعر والقراءة مولعاً بالانضباط والرياضة وأحرز ميداليات الجمعية الأدبية خاصة في الشعر الغنائي والشعر الشعبي. فما تراه منه من سيرته أنه “جياشي” دخل الكلية الحربية عام 1989 وتخرج ليطلب أن ينتمي للمدرعات على رغم تزكية معلمه في الكلية أن ينتمي للاستخبارات العسكرية. وحارب في الجنوب في عام 1994 ولما انتهت مهمة وحدته هناك، لتعود إلى الرئاسة في الخرطوم أصر أن يبقى هو، حيث هو يحارب في المشاة. ومما عزز استمراره في الجيش، قول زميل له، ليس “كيزانيته”، وهي التهمة لكل من جاء إلى الجيش بعد عام 1989، بل “لإمكاناته الكبيرة وقدرته على المواجهة واتخاذ القرار، فضلاً عن كاريزما القيادة التي اكتسبها من ممارسة التوجيه بالأكاديمية العسكرية العليا، أعلى معهد تعليمي للجيش”. واشتهر بصراحة اللسان لا يطيق من يسميهم بـ”المطبلاتية”.
وكان بكراوي قائداً للمشاة في مدينة كوستي حين قامت الثورة في ديسمبر (كانون الأول) 2018. ولم يخف رأيه بأن يقف الجيش على الحياد بين النظام والحراك الثوري. فنقلته القيادة إلى المدرعات بالخرطوم في فبراير (شباط) 2019 قائداً ثانياً للسلاح. وثارت ثائرة مهنيته فرفض تمركز قوة للدعم السريع عند المدرعات، في يوم انقلاب الجيش والدعم السريع ضد الرئيس المخلوع البشير. وبدا للناس الآن أن مثل الارتكاز الذي رفضه بكراوي هو ما قبلت به أسلحة أخرى فانتهى الدعم السريع إلى موقع عند أي منها. ومن هذه المواقع أطبق على الجيش في هذه الحرب الدائرة.
ولم يخف بكراوي رفضه لتغول الدعم السريع وسجل موقفه كتابة ورفعه إلى القيادة العامة، ثم قام بتسجيله صوتياً بعد أسبوعين من فض اعتصام القيادة في 4 يونيو 2019. ونشره على وسائل التواصل الاجتماعي لأبناء دفعته في المدرسة الثانوية. وانتقد في رسالته ما سماه “تقاعس قادة الجيش” عن الدفاع عن شعبهم وهو يقتل أمام بوابات القيادة دون أن يحركوا ساكناً في إشارة إلى فض اعتصام الثوار في القيادة. وأدى ذلك إلى إحالته للتحقيق في فبراير 2020 ووضعه في الإيقاف الشديد بسبب ما اعتبر إساءة لحميدتي ورد في تسجيله.
ولما اشترت دوائر الثوريين رواية العسكريين عن بكراوي ضاع دربهم إلى المهنية في الماء.
يعتزل كثير من الجماعات من صف الثورة الحرب الدائرة ببينة أن طرفيها يقودان حرباً عبثية أثقلت على العباد الذين لا ناقة لهم فيها ولا بعير. وهو موقف بئيس لأنه لا يأخذ فيه بالمهنية في اعتباره في حين يطمع بالحصول على جيش مهني بعد نهاية الحرب أياً كانت نتيجتها. ولربما لهذه الربكة تُوصف مثل هذه المخاطرة بالقفز في المجهول.