على هامش مجزرة فض الاعتصام

0 122
كتبت: رشا عوض
.
في ٣ يونيو ٢٠١٩م قرر المجلس العسكري بقيادة قائد الجيش عبد الفتاح البرهان ونائبه قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو فض اعتصام الثوار أمام القيادة العامة للجيش الذي بدأ في 6 أبريل 2019 م ، في أول انقلاب على ثورة ديسمبر المجيدة، كانت المجزرة بشعة بكل تفاصيلها من قتل وحرق واغتصاب واغراق للجثث في النيل، والأكثر بشاعة من المجزرة هو التواطؤ متعدد الأطراف على “دفن الحقيقة” حول تفاصيل ما جرى، وتحديد المجرم المُنفِّذ والمجرم المُخطِّط والمجرم المُحرِّض على وجه الدقة.
تحل هذه الذكرى الأليمة على الشعب السوداني وهو تحت وطأة حرب لعينة يموت فيها الأبرياء داخل منازلهم بالرصاص الطائش وسقوط الدانات وقذائف الطيران والمدفعية في مشهد مأساوي ينطق بلسان فصيح: أيها المواطن السوداني ليس بالضرورة ان تكون مناضلا ضد العسكر والكيزان حتى يخترق جسدك رصاصهم ! حتى لو انصرفت تماما عن السياسة ومعاركها واعتصمت في عقر دارك بكل بساطة يمكن ان تحرقك وتحرق أطفالك نيران أسلحتهم في معركة صراعهم على السلطة !
قال الشاعر أمل دنقل:
إن الرصاصة التي ندفع فيها ثمن الكسرة والدواء
لا تقتل الأعداء
لكنها تقتلنا إذا رفعنا صوتنا جهارا
ولكن المشهد في السودان أكثر قتامة من الصورة التي رسمتها أبيات أمل دنقل! لأن الرصاصة التي يدفع فيها السودانيون ثمن الكسرة والدواء تقتلهم الآن حتى لو لم يرفعوا أصواتهم! تقتل الأبرياء داخل منازلهم! كما قتلت المتظاهرين في الشوارع وكما ذبحت المعتصمين أمام القيادة العامة!
تحل هذه الذكرى والأعين دامعة والخواطر مكسورة والنفوس محاصرة بكوابيس الرعب والخوف وحسرة الأحلام التي تتبدد! رغم زلزال الحرب لا نملك سوى مواصلة الحلم النبيل بالوصول إلى فجر الحقيقة والسلام والحرية والعدالة ذات يوم!
“عار القيادة العامة”
كتائب الظل السياسية والإعلامية التابعة للكيزان في سياق نفخها في نيران هذه الحرب اللعينة تحاول قصاراها في تجريم وتخوين موقف “لا للحرب” المنحاز للسلام والرافض للاصطفاف خلف أي من طرفيها (الجيش والدعم السريع) على أساس ان المعركة لا تخص الشعب السوداني ولا قوى الديمقراطية والعدالة بل هي صراع سلطة بين طرفين اشتركا في قمع الشعب وقتله والانقلاب على ثورته، احدهما خرج من رحم الآخر!
يتم ابتذال هذا الموقف النبيل وتصويره كانحياز للجنجويد! بل وبمنتهى البجاحة وقوة العين الكيزانية تُنصب محاكم التفتيش الوطني وتصنف من لم ينحاز للجيش في هذه المعركة كخائن وتستنكر الوقوف على مسافة واحدة من الطرفين وكأنما هذا الموقف وليد هذه الحرب وليس موقفا اصيلا نتج عن معاناة هذا الشعب مع العسكر!
ان القوى الديمقراطية الوطنية منذ مجزرة فض الاعتصام وهي تنظر الى الجيش والدعم السريع كمؤسستين شريكتين في قمع المدنيين وقتلهم طمعا في السلطة، ولا سبيل للتصالح معهما الا بعد عملية شاملة للإصلاح الأمني والعسكري وعملية شاملة للعدالة الانتقالية، وبعد خروجهما نهائيا من العملية السياسية.
في قصيدته الرائعة “عار القيادة العامة” المكتوبة بمداد من دم الشهداء على خلفية تلك المجزرة عبر الشاعر أزهري محمد علي عن وجدان الثوار والديمقراطيين الأحرار ، ذلك الوجدان الحر النزيه المتسم بالاستقامة والمستعصي على الحبس في الثنائيات الغبية! إما مع الجيش وإما مع الدعم السريع! ذلك الوجدان المستعلي عليهما معا والمنحاز للقيم المدنية الديمقراطية، الوجدان الشفيف الذي يبصر بنور الثورة ويرى مثلث اعدائها: العسكر(جيش ودعم سريع) والكيزان :
العمر البروح عيدية هدر في مسخرة دعَّامة
ما بناخد فداه الدية ما بنقبل قصادو غرامة
نحن على الفدا اتواعدنا واتعاهدنا حب وكرامة
زي سرب القماري صعدنا في لحظة وقوع الطامة
اتوسمنا خير وقعدنا في جحر الأفاعي السامة
شن طعم القيادة بعدنا شن معناهو طولة القامة
في القلعة المشيد سورا قايلين الوراها نشامى
في ذاكرة شعوب محفورة في صدر المعارك شامة
تبت دوشكتا المأجورة تاكل من حلالنا حراما
تتلامع سماحة صورة وأولادنا بتموت قداما
يا عار القيادة العامة!
وفي توصيفه لما حدث يوم المجزرة يقول شاعرنا في ذات القصيدة:
من كل فج طلعت ذئاب
بانت نوايا الحية وانكشف الحجاب
وطلعت خبايث الارض من تحت التراب
طلعت كتايب الظل والهة العذاب
وطلعت نفوس متناسية ويلات السؤال عند الله في يوم الحساب
ويختم شاعرنا المجيد قصيدته قائلا:
يحيا الكفاح وينبغي وتسقط كتائب الجنجويد!
ليس على الكيزان حرج في ابتذال وتشويه موقف القوى الديمقراطية الرافضة للحرب والراغبة في إطفاء نارها عبر سحب المشروعية السياسية والغطاء الاجتماعي من طرفيها، فهم أصحاب الحرب والطامعون في حصاد ثمارها سلطة وثروة، ولكن الحرج والعيب هو ما يصدر من مثقفين معارضين للكيزان ولكنهم لم يكتفوا بتأييد الجيش بل انخرط بعضهم في التماهي تماما مع الخطاب الكيزاني والتواطؤ معه بابتذال موقف الرافضين للحرب وتصويره كانحياز مبطن للدعم السريع!!
متى يتأدب العسكر في حضرة الشعب؟
الجيش يريد من الشعب ان يهتف الان: جيش واحد شعب واحد وان يصطف خلفه في حربه مع المليشيا التي خرجت من رحمه دون قيد او شرط! دون كلمة اعتذار عن مجزرة القيادة العامة التي تقاعس فيها الجيش عن حماية شباب وشابات عزل بل واغلق ابواب قيادته العامة في وجوهمم ولم يتذكر حينها شعار “جيش واحد شعب واحد “!
حتى الآن لم يقدم الجيش ضابطا واحدا او جنديا واحدا للمحاكمة على خلفية تلك المجزرة واكتفى بعبارة (حدث ما حدث).الكيزان الذين يدقون طبول هذه الحرب وهم من صاغوا خطابها السياسي والاعلامي لم يكلفوا أنفسهم عناء الاجتهاد في بلورة خطاب سياسي للجيش يحاول فيه رد الاعتبار للشعب السوداني بالاعتذار عن كل السجل الاجرامي في الحروب الأهلية وعن مجزرة فض اعتصام القيادة العامة وعن مقتل مئات المتظاهرين السلميين ، وببذل الوعود بالخروج من السياسة وقبول المشاركة المدنية في الإصلاح الأمني والعسكري، لم يخطر للعقل الكيزاني الذي يقود الدعاية الحربية شيء من ذلك لان الكيزان لا يحترمون الشعب ولا سيما كيزان الجيش الذين يجمعون بين صلف العسكرية والايدولوجيا الاسلاموية! فالشعب في عرفهم مجرد عبد يؤمر فيطيع! وليس سيدا يأمر وينهى ويتساءل ويحاسب ويراقب ويعاقب من ينتهكون حرماته!
اما الدعم السريع الذي يعلم تفاصيل التفاصيل عن مجزرة القيادة العامة التي اتهم طرفا ثالثا بارتكابها ، واعتقل عشرات الجنود الذين شاركوا في فض الاعتصام وهم يرتدون ملابس الدعم السريع، لم يخرج على الشعب السوداني في مؤتمر صحفي ويكشف له الحقيقة كاملة عن الطرف الثالث الذي نفذ المجزرة وعن نتائج التحقيق مع الجنود المعتقلين لديه، احتفظ بالمعلومات في طي الكتمان بهدف المساومة بها عند اللزوم في المغامرات الانقلابية ولعبة صراع السلطة، لم يعتذر الدعم السريع عن نهجه الانقلابي بعد فض الاعتصام وانخراطه في مشروع الثورة المضادة، وبعد ان أدرك الدعم السريع ان مشروع الثورة المضادة سيبتلعه هو قبل القوى الديمقراطية قفز إلى تبني شعارات التحول الديمقراطي ولكن دون ان يخاطب الشعب السوداني بحيثيات تحترم عقله حول كيفية الجمع بين التحول الديمقراطي وبين الإمبراطورية المليشياوية العشائرية ذات الجيش العرمرم ومناجم الذهب والاستثمارات الاقتصادية غير الخاضعة لولاية وزارة المالية والعلاقات الدولية والاقليمية خارج ولاية وزارة الخارجية ! هناك تناقض بنيوي بين التحول الديمقراطي ووضعية قوات الدعم السريع وشبكة مصالحها السياسية والاقتصادية الراهنة. لم يشرح ” الدعم السريع” للشعب السوداني خطته للتحول الديمقراطي المزعوم ولم يفصح عن التنازلات الحقيقية التي سيقدمها عربونا للمدينة.
السؤال الذي يبحث عن إجابة متى يتأدب العسكر في حضرة هذا الشعب؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.