فتح الخرطوم بين المهدي عليه السلام (1885) والفريق ركن حميدتي
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
لم يكن مستغرباً أن تستدعي واقعة الهجوم المسلح لقوات الدعم السريع على الخرطوم في 15 أبريل (نيسان) الماضي إلى الأذهان واقعة سياسية عسكرية شهدتها المدينة قبل 138 عاماً مضت. ففي 26 يناير (كانون الثاني) 1885 فتح الإمام محمد أحمد المهدي (1844- 1885) مدينة الخرطوم التي كانت خاضعة للحكم العثماني المصري منذ 1821 بعد حصار لها بدأ في 13 مارس (آذار) 1884.
وقتل في ذلك الفتح تشارلز غوردون حاكم السودان الذي انتدبه الخديوي إسماعيل حكمداراً عاماً على السودان ورسول إنسانية مسيحية في بداية 1884 نزولاً عند مشيئة بريطانيا وغيرها من لوبي محاربة الرق الذي كان فاشياً في هذا البلد الأفريقي.
وتأسست بعد الفتح دولة المهدية التي قام عليها منذ فجرها إلى مغربها الخليفة عبد الله بن محمد خليفة المهدي (وعرف بخليفة الصديق قدوة بخلافة سيدنا أبي بكر للنبي) لأن المهدي قد عوجل بالموت في عام الفتح نفسه. وعرف الخليفة بالتعايشي، لأنه من جماعة التعايشة من إقليم دارفور، وهم من شعب عرب البقارة (رعاة البقر) الذين يمتدون في الساحل الأفريقي من إقليم كردفان بالسودان إلى نيجيريا وبوركينا فاسو. وسقطت دولة المهدية بعد حملة إنجليزية في 1898 في سياق منافسة أوروبية لاقتسام أفريقيا وبذريعة الانتقام لغردون، الذي صار فيهم قديساً، واسترداد السودان للخديوية المصرية.
كان إغراء استدعاء فتح الخرطوم التاريخي في سياق هجوم الدعم السريع الماثل مما لا يقاوم من جهتين. فالوجه الأول أن حميدتي جاء من شعب البقارة نفسه الذي كان عصبة المهدية، وجاءت أعداد غزيرة منه مع المهدي من إقليم كردفان الذي جعله المهدي، وهو من أقصى شمال السودان، قاعدة انطلاقه لنشر فكره وتأليب الأهالي ضد الحكم التركي. وتمكن البقارة من مفاصل الدولة وأماراتها بعد صعود الخليفة للحكم.
ولجماعات كثيرة في الشمال والوسط النيلي أضغان على الخليفة والبقارة لاستباحة ديارهم ومالهم التي كانت سبيلاً بواسطة جيش المهدي لغزو مصر في معارك خسر فيها ضد الجيش المصري بقيادة الإنجليز. فأثار مجيء حميدتي من شعب الرزيقات البقاري وبجند غلب فيهم العنصر الدارفوري ثائرتين، الأولى التي أرقت جمهرة الشمال والوسط النيلي التي رأت في حصاره الخرطوم بدعمه السريع، وكأن التاريخ يعيد نفسه. وكانت الثائرة الثانية عند كثير من أهل الهامش من صفوة المركز في العاصمة، وكثيرهم في نواحي الغرب في كردفان ودارفور. فكان لهم طوال سنوات حكم الإنقاذ (1989-2019) مشروعاتهم المختلفة لفتح الخرطوم مثل حملة “الذراع الطويلة” لحركة العدل والمساواة بقيادة خليل إبراهيم شقيق، رئيس الحركة الحالي جبريل إبراهيم وزير المالية التي اقتحمت الخرطوم في مايو (أيار) 2008 وانهزمت في أيام قلائل وعادت خاسرة.
أما الوجه الثاني للإغراء فمرتبط بالثائرة الثانية أعلاه. فكان فتح الخرطوم على يد المهدي باعث إلهام لا ينضب للهامش. فما جاء يوم ذكراه حتى قال قائل منهم “عقبال سقوط الخرطوم في يد الثوار” (2014). وزاد بأن تحرير الخرطوم من نظام الإنقاذ وشيك “طالما هناك تماطل واستخفاف باللهيب المشتعل فالطريق إلى مفترق النيلين (الخرطوم التي يتقاطع عندها النيل الأبيض والنيل الأزرق) سيكون معبداً لعيال حوا للوصول إلى مركز الطغيان كما وصل إليه أسلافهم”، أي أنصار المهدي في 1885.
ولهذا الخيال الطويل الخاص بفتح الخرطوم حيثيات أصلها في جدل المركز والهامش الذي غشي السودان منذ الثمانينيات على يد مؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان والجيش الشعبي لتحرير السودان العقيد جون قرنق.
آنذاك، تصاعدت الدعوة إلى سودان جديد على بنية المواطنة تقتسم فيه شعوبه السلطة والثروة من مركز عربي إسلامي قابض، أو مغتصب، للحكم منذ استقلال البلاد في 1956. وجاء رئيس اللجنة المركزية لحركة تحرير السودان الكبرى محجوب حسين بحيثيات هذا الخيال في مقال نشره أبريل (نيسان) 2007. فتساءل إن كان بإمكانية الشعوب السودانية البحث عن حصار للخرطوم وفصل جديد لمصرع غردون. وسمى دولة ما بعد الاستعمار التي سادتها النخبة النيلية في رأيه “دولة اللاحقيقة”. فهي بتلك الصفة دولة الغزاة الثالثة. فسبقتها الأولى، وهي دولة الحكم التركي، ثم الثانية، وهي فترة الحكم البريطاني (1898-1956)، والثالثة هي حكم ورثة الإنجليز ممن سماهم “نخب شارلز غردون” منذ 1956 إلى يومنا الراهن.
ودولة الغزاة الثالثة في رأي محجوب هذه دولة استعمارية وصفها بـ”الاستعمار الداخلي”. فهي بنت خيال نخبة غردون فرضت سلطانها على مخيال أوطان عديدة لشعوب السودان واستبعدتها من بناء الصورة الحقيقية للسودان، لا اللاحقيقة التي انتهى إليها.
وجاء إغراء فتح الخرطوم على يد المهدي سائغاً هنا. فقال محجوب إن حتمية الانتقال التاريخي من دولة الغزاة الثالثة تستدعي “أيديولوجية الفتح الجديد” للخرطوم، ولا تذهب هذه الأيديولوجية بعيداً تلتمس القدوة فلا تحتاج إلا لإعادة إنتاج حصار الخرطوم وفتحها في 1885. وكان ذلك فتحاً تجسدت شرعيته في المهدي كرمز للسيادة وزعيم حركة التحرير على رأس 40 ألفاً من أنصاره من غرب السودان. ولن يوقفنا هنا إسقاطه حقيقة أن نجاح فتح الخرطوم معزو بشكل رئيس للزعامات القبلية من حول الخرطوم التي خرجت لحصارها من كل فج عن معرفة بطوبوغرافيتها. وفي المقابل كانت الخرطوم، مدينة لجيش غازٍ وللأجانب من مصريين وأتراك ويهود ويونان يقوم عليها غردون. والمهمة المنتظرة “هي تجديد حصار الخرطوم ومقتل غردون مرة ثانية لإسدال الستار عن دولة اللاحقيقة إلى دولة الحقيقة السودانية”.
لا نملك ترف التغاضي عن مثل هذا الخيال، الذي تواثق على فتح الخرطوم بالقدوة التاريخية للمهدي، مهما بدا عليه من شطح وعصبية أحياناً إذا أردنا فهماً دقيقاً حصيفاً لما يحدق بالعاصمة اليوم، فقد كانت المدينة ومنطوياتها السياسة والاجتماعية والتاريخية في مرمى هذا الخيال لعقود. وكان غبناً عن حق لزم أن يكون رائدنا وبوصلتنا إذا أردنا أن نخرج من هذه الحرب أفضل مما كنا قبله بمسافات ضوئية. فالأماني في طي المنايا.
ومن الجانب الآخر لا أظن أن الدعم السريع في اقتحامه الخرطوم بقيادة محمد حمدان دقلو، مما يمكن نسبته لحصار الخرطوم التاريخي على يد المهدي إلا لماماً. فلم يأتِ حميدتي عن مظلمة مثل المهدي أو حتى معاصريه في حركات السودان الجديد المسلحة. خلافاً لذلك جاء حميدتي لحصار العاصمة ورمى لفتحها عن فرص توافرت له في خدمة الدولة الغازية الثالثة نفسها في الخرطوم، واستحصل منها على موارد سارت بغزارتها الركبان. فلم يتأخر في خدمة هذه الدولة بكسر بعض الحركات المسلحة التي خرجت لفتح الخرطوم عن مظلمة بقدوة المهدي كما رأينا. فواقعة أن دافع من ينشط في سبيل فتح الخرطوم الآن، حميدتي، هو الفرصة لا المظلمة مما يطعن في أيديولوجية أن الفتح بالسلاح على بينة سابقة المهدية هو سبيلنا لمحو غبن الهامش لبناء السودان الحقيقي.
لقد كشف فتح الخرطوم الجاري على يد حميدتي عن المآلات الوخيمة التي قد تسوق إليها عقيدة الهامش من أن العنف هو السبيل لا غيره لرد الحقوق. ففي واقع الحال سقطت دولة الغزاة اللاحقيقة الثالثة، في قول محجوب، ثلاث مرات في 1964 و1985 و2019 تحت وابل مقاومة مدنية سلمية، بينما بنادق مسلحي فتح الخرطوم مشرعة وصامتة وعقيم.