السودان: من قتال المدن إلى مصارعة المنظمة الأممية

0 51

كتب: جمال محمد ابراهيم

(1)

في الثامن من يونيو/ حزيران الحالي، أصدرتْ وزارة الخارجية السودانية، بياناً أعلنت بموجبه إخطارها الأمين العام للأمم المتحدة، مبعوثه الأممي ورئيس البعــثة الخاصــة في السّـــودان: “أنه شخص غير مرغوب فيه”، بحجة ما زعم من دور له في تأجيج الصـــراع الداخــلي بيــن الفرقاء السودانيين. فهل هذه هي المرّة الأولى التي تعــادي فيها حكــومة أمــرٍ واقعٍ ســـودانــية مبعــوثاً من المنظمة الأممية..؟

تقول التجربة السودانية، إن ذلك الفعل قد وقع من قبل من طرف حكومة نظام البشير في أكتوبر من عام 2006، إذ أقـدمـت حكومة نظام الإنقاذ البائد على إخطار الأميــن الـعـام السابق للأمم المتحدة المرحوم كـوفي عـنـان، أنّ حكومة السودان قد أمهلـت مبعــوثه الخــاص للسودان السيد ايان برونك وهو هولندي الجنسية، لمغادرة السودان بمزاعم تجاوزه واجبات مهمته وإطلاقه تصريحاتٍ حول النزاع الناشب في دارفور، لم ترضِ عنها الخرطوم.

(2)

السيد “إيان برونك” كان وزيرا ســابقا في حكومة بلاده هولندا، وهو دبلوماسي نحرير وموظف أممي مقتدر، وله لسان ذرب وصوت حاد الانتقاد، ولأنه تولّـى تكليف مهمة تمثيل الأميـــن العام للأمم المتحدة، فقد منح مهمته خالص اهتمامه، وهيَ تتصل أساساً بتفـاقــم الصــراع الدائر لسنواتٍ في دارفور، ولم يكن الرّجل رحيما بحكومة البشـــير، فأبغضــتْ تصـــريحاتـه قيادات الحكومة في دارفور. على إثر تصريحات الرّجل في صفحته الالكترونية، فقد تم حشد رأي ناقــد لأداء الرجل فأقنعوا وزارة الخارجية لقيادة تحرك ضده، فأمهـلته وزارة الخارجــية السودانية 72 ساعة لمغادرة السودان.

غير أنّ أداء الدبلوماسية السودانية في سنوات منتصف العقد الأوّل للألفية الثالـثة، قـد اتسـم بقـدرٍ كبيرٍ من المهنية والحصافة الســياسية. لقد تمَّ إخراج قرار انهاء مهـمة مبعــوث الأمين بأسلوب مدروس، كما أنّ الرّجل نفسه أحس بالتباين والاختلاف الشـــديد بين رؤيـته للنزاع في دارفور ورؤى الحكومة السودانية حوله، والتي كانت تلقي على جوانبه الصّـراع ستاراً كثيفاً من الإخفاء والتورية.

تـمَّ إخطــار السيد برونك بالقرار في شهر أكتوبر من عــام 2006م بعــد اكـمـــاله نحــو عامين في السودان. قبلَ الرّجل بمهلة الـ 72 ســاعة، لكنهُ طلب- وبعد تنفـيـذ الــقــرار- أن تسمح له الحكومة السودانية بالعودة بصفته الشـــخصية لإكمــال ترتــيب رحيـله النهــائي من الخرطوم. قبلـتْ الحكومة ذلك الطلب، كما سارع الأمين العام باسـتدعاء الرجل إلى نيويـورك للتشاور. هكذا انتهت قصّة الرّجل مع السودان.

(3)

ما أن أصدرتْ وزارة الخارجية السودانية قرارها في بيان أعلنت فيه الرجل “شخصاً غير مرغوبٍ فيه”، وفـق الصفة والتعبير البلوماسيين اللذين يســتعملان ضــدّ أي دبلوماســي يتجاوز مهامه الدبلوماسية، وفق ما أقــرّته اتفاقيتا فيينا للعــلاقات الدبلوماســـية وللعـــلاقـات القنصلية، حتى سارع المتحدث القانوني بإسم الأميــن العام للأمــم المتحـــدة، مفـنّـدا حـجــة وزارة الخارجية السودانية بأنّ الصيغة الواردة في المذكرة الســـودانية، هي من الصـيّغ الـتي تطبق على السفراء أو الدبلوماسيين حال ارتكابهم مخالفات في إطار العلاقات الدبلوماســـية الثنائية، وليس في إطار العلاقات الدبلوماسية الجماعية، إذ السيد بيرتيس مبعــوث الأميــن العام، ليس دبلوماســيا أو ســفيراً في التوصـيف، لكنه موظف أممي، يحاسب بلوائح الأمم المتحدة لا بمقررات اتفاقيتي فيينا الدبلوماسية والقنصلية.

(4)

ستظلّ الحجّة القانونية والدبلوماسية تدور حول الأمر، وستسـوّد صفحــات وأوراق ومذكرات، ولكن ستبقى وزارة الخارجية السودانية أول من يلام في عدم التوفـيــق في إخراج قرار التخلص من مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة من الملف السوداني بحصــافةٍ وبقدرٍ من الاقناع والاقتناع المتبادل.

ولعلّ سوء التقدير من طرف وزارة الخارجية السودانية، لم يقف عند حدود، بل مضى ليؤلب على مبعوث الأمين العام، منظماتٍ إقليمية وأطرافا حادبة على أحوال الســودان، تنصح أن لا تتعامل جميعها مع رجل قــرّر السودان إعلانه “شخصاً غير مرغوب فــيه”. وإني وقد أجزم هنا أن دبلوماسيي وزارة الخارجية السودانية، فيهم من حذق المهنة وأمسك بتقاليدها ولان لهم قيادها، فكيف تطيش سهامهم الدبلوماسية فيقعون في أخطاء أثارت عليهم سخرية في الأوساط السياسية والدبلوماسية. ولو أمعنا النظــر ملياً، ســنرى أن لبعــض الجنرالات الحاكمين حاليا في الخرطوم، يـدٌ في إخراج ذلك القرار الخاص بالتخلص من المبعوث الأممي على هذا النحو الذي بدا وكأنه فضيحة دبلوماسية. أميل إلى القــول إن النصح البلوماسي لم يجد أذنا تصغي ولا حكيما يدرك، والقتال يدور في شوارع الخرطوم وأغلب عناصر وزارة الخارجية بما فيهم وزيرها المكلــف لا يُسمع لـهم همسٌ ولا صـــوتٌ ولا حراك.

النظام العسكري القابض الذي تخلص من مبعوث الأمين العام القـــديم “إيان برونـك” في عـــام 2006م، كان أكثر حكمة وأدقَّ حصافة، مثلما كانت عناصره الدبلوماسية في وزارة الخارجية وقتذاك أكثر كفاءة في المناصحة وأمتن اقـتدارا في الاقناع.

(5)

يبقى جانب أراه مهما ولافتا. وإني لأتساءل هنا إن كان توقــيـت إثارة معــركــة دبلوماســية مع المجتمع الدولي، تضاف إلى المعارك التي سـموها “عبثية”، هو توقيت مناسب، أم هو توقيت يصبّ الزيت على النار اللاهبة..؟ لنا مثلٍ يعرفه السودانيون جيّداً يكاد يكون مفصلا تفصيلا كتفصيل الغمد للسكين. ألسنا في السودان من استقدمنا ذلك المبعوث إذ وافق الأمين العام للأمم المتحدة على إرساله لعوننا، فأنكرنا دوره ورفضنا مهمته..؟

يقول المثل السوداني: جئنا نعينه على حفر قبر لوالده فدسّ عنا المحافير..!

آخر قولي، أن لا يكون السودان تلك الجثـة المُسـجـاة بانتظــار الـدّفـــن..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.