تجربة التوطين والاستيلاء على الأراضي في المهدية
1
الحرب التي تدور رحاها في الخرطوم ومن قبل في دارفور لتندلع مرة أخرى فيها ، وما نتج عنها من تهجير ونزوح واستيلاء لاراضي وحواكير ومنازل المواطنين ، مع مطالب النازحين للعودة لمنازلهم ولاراضيهم وحواكيرهم وعودة المستوطنين لبلدانهم ليست جديدة، فقد شهدت المهدية بعد الوصول للسلطة في فترة الخليفة عبد الله تجربة مماثلة ، دافع فيها السكان المحليون عن اراضيهم بمختلف الأشكال عن اراضيهم ، ولاسيما في قضية الأرض التي تعنبر ركيز العمل لتلك القبائل الزراعية والرعوية.
في بداية الثورة المهدية اوضحت رسائل الأمام المهدي الخط العام الذي حكم تطور الثورة المهدية ، وهو الخط المنحاز للفقراء والمستضعفين، ودعوته المتكررة لنبذ الدنيا وفانى لذاتها والتركيز على القيمة والدرجة العليا للتصوف التى تصور المسلمين الاحرار الكرام الذين يخافون من الله لاطمعا في جنته أو خوفا من ناره ( للمزيد من التفاصيل ، راجع الآثار الكاملة للامام المهدي، تحقيق محمد أبراهيم ابوسليم ، دار جامعة الخرطوم للنشر) .
كان أمر ملكية الأرض في الفترة ( 1881 – 1885 ) ، وهى فترة التشريعات المباشرة للإمام المهدي التي كان يوازن فيها بين مصالح الفقراء وصغار الملاك وكبار الملاك من تأكيده على الملكية الفردية والضرائب غير الباهظة ( الزكاة ) على صغار الملاك ، وهذا الواقع فرضته طبيعة الثورة الشعبية والجماهيرية في ذلك الوقت أو توازن القوى في القيادة .
2
لكن الصورة تغيرت في الفترة ( 1885 – 1898 ) ، وهى فترة الخليفة عبد الله ألتعايشي .
– في هذه الفترة نجد أن الدولة المهدية استولت على كل الأراضي التي كان يمتلكها الترك والنصارى أو أراضي الحكومة وتشكلت بذلك النواة لملكية الدولة للأرض بحكم الغنيمة أو الفئ ، وأغلب تلك الأراضي كانت في الخرطوم والكاملين ودنقلا والحلفايا والفتيحاب والقاش ودار الشايقية .. وقد أعطيت تلك الأراضي في بعض الحالات للجهادية وعامة الأنصار دون مقابل ليستفيدوا من محصولها في المعاش وفي علف الخيول ولم يكن بيت المال يحصل منها على نصيب.
( للمزيد من التفاصيل د. محمد إيراهيم أبو سليم : الساقية، معهد الدارسات الأفرو- اسيوية ، 1981 ، ص 235 )، راجع ايضا ، تاج السر عثمان الحاج ، دراسات في التاريخ الاجتماعي للمهدية ، مركز عبد الكريم ميرغني ، 2010) .
– في بداية حكم الخليفة عبد الله اتسعت هذه العملية وحدثت حركة هجرة جماعية لترحيل البقارة من ديارهم البعيدة في جنوب دار فور على أم درمان لتأمين مركز الخليفة وحماية سلطانه من مؤامرات الأشراف وغدر سكان النيل (د. محمد سعيد القدال : السياسة الاقتصادية للدولة المهدية ، دار جامعة الخرطوم ، ص 58 ) .
ليس هذا فحسب بل أن تلك القبائل لم تكن كلها تفد إلى أمدرمان ، فبعد مجاعة سنة 1306 ه أخذ الخليفة يعمل على توطين ( أولاد العرب ) في منطقة الجزيرة والنيل الأبيض في موسم الخريف .. وكان يتخير لهم الأماكن القريبة من العاصمة ، أما التعايشة فكانوا يمنحون مزارع خاصة بهم ( د . القدال، المرجع السابق ، ص 59 ) .
3
كان من الطبيعي أن يثير التهجير احتكاكا مع السكان المحليين بالذات عند حدوث تعدى على ملكيتهم الخاصة للأرض ، ويظهر ذلك من رسالة الخليفة لعماله بالجزيرة والتي حاول فيها أن يؤكد سياسته الرامية إلى أن يتم ذلك التهجير دون صراع مع سكان المنطقة ، جاء في الرسالة : –
( وقد بلغنا أنكم أجريتم قسمة أطيان الأهالي المزروعة التي زرعوها بأيديهم للأهل التعايشة ظلما بدون وجه حق وهذا ما لايرضي الله ولا رسوله ولا يرضينا وما علمنا السبب إلى ذلك ، فيلزم بوصول أمرنا هذا إليكم أن تسلموا كافة ديار أهالي البلد التي زرعوها إليهم وترفعوا الأهل التعايشة عن خصوص ديارهم التي زرعوها بأيديهم فقط ولا يأخذوا من ديار الأهالي المزروعة شبرا واحدا وكيف يحصل منكم ذلك الظلم مع أن الأراضي واسعة وليس فيها ضيق وهى كافية لأكثر من الأهل الذين توجهوا ) ( نص الخطاب في القدال المرجع السابق ، ص ، 60 ) .
ويبدو من رسالة الخليفة تلك أن أهالي الجزيرة الذين انتزعت أراضيهم اشتكوا، وحاول الخليفة ظاهريا حل المشكلة بإرجاع الأراضي إلى أصحابها، فالمشكلة ليست في أن الأراضي واسعة ولكن المشكلة في أين الأراضي الخصبة ؟ .
4
يبدوا أن الصراع هنا كان حول الأراضي الخصبة ذات المنتوج العالي والقريبة من ضفاف النيل والري الدائم .. وهذه الأراضي كانت مملوكة لأهالي الجزيرة منذ أيام الفونج ، ثم أن السبب الأساسي لذلك الاحتكاك هو تلك السياسة الواسعة للتهجير ، والتي كان لابد وأن تحدث تلك السياسة احتكاكا مع السكان المحليين .. وكما أشار د. قدال ( ولكن لنا أن نفترض أن توطينا جديدا على ذلك المستوى الكبير لابد أن يحدث احتكاكا بين المجموعات الوافدة والمجموعات المحلية ، وفي تلك الحالة ، فإن الصراع سيحسم لصالح المجموعات التي في يدها السلطة ) ( قدال ، المرجع السابق ، ص 60 ) .
وقد اتخذ الخليفة مثل ذلك الإجراء ضد قبيلة كبيرة هي قبيلة الشكرية حيث أمر بتوزيعهم على ثلاث مناطق : أم درمان ، عطبرة ، كسلا .
5
هكذا حدث تحول في ملكية الأراضي الزراعية لصالح الفئات الطبقية الجديدة التي كان يعبر عنها حكم الخليفة دون سند قانوني معلوم. وبالتالي استحوذ زعماء البقارة على أحسن وأجود الأراضي الزراعية .
وتلك العملية شبيهة إلى حد ما باستيلاء حكام سلطنة الفونج على أراضي النوبة الزراعية الخصبة في بداية حكمهم ، فالسيطرة السياسية في تلك الأنظمة كانت دائما تتبعها سيطرة اقتصادية ، وفي بلد زراعي كالسودان ، فان السيطرة الاقتصادية تعني السيطرة على أجود الأراضي الزراعية وأخصب المراعي .. وهذا ما فعلته الفئات الجديدة التي استولت على السلطة. يقول د قدال ( فما أحدثته المهدية من تحول خرج على النمط القانوني التقليدي الذي يستند على وثائق التمليك ) ( نفسه ، ص 30 ) . كما أورد وعلق على رأى د . محمد هاشم عوض الذي يقول أن الآثار التي خلفها الفونج والأتراك في ملكية الأرض أبعد أثرا من تلك التي أحدثتها المهدية ( في المرجع السابق ن ص 60 ) .
ولكن في اعتقادي أن مافعله الفونج والأتراك في بداية حكمهما للسودان لا يختلف عن ما فعله الخليفة عبد الله التعايشي في بداية حكمه .
نذكر أن حكام الفونج في بداية حكمهم نهبوا واستولوا على أراضي النوبة الزراعية الخصبة . وبعد أن تمكنت الطبقة الجديدة أو عصبة الفونج في السلطة والحكم وبعد أن أصبحت كل الأراضي ملكا للسلطان أو الملك على نمط النظم الإقطاعية الشرقية وكنتاج لتطور تاريخي طويل ظهر نظام التمليك والتوثيق الذي كان يقوم به سلاطين الفونج ، والتي كانت من ضمن أهدافها إعادة إنتاج النظام .
6
نذكر أيضا أن محمد على باشا في بداية حكمه استولى على كل أراضي مصر ، وبعد ذلك قنن نظم التوثيق ، وفي مرحلة لاحقة ظهرت الملكية الخاصة للأرض بعد صدور قانون سعيد باشا في عام 1857 والذي قنن الملكية الفردية للأرض وحق المالك في البيع والإيجار والرهن وغير ذلك .
بعد احتلال محمد على للسودان استولى نظريا على كل أراضي السودان ونظم عملية تحصيل الضرائب والملكية الفردية.. وبالتالي استولى الأجانب ( الأتراك والنصارى ) على أجود الأراضي، تلك الأراضي التي استولى عليها الإمام المهدي.. وتم تقنين تلك العملية وفق قانون محمد على وقانون سعيد باشا فيما بعد . والخليفة عبد الله – وليس هذا تبريرا – لم يفعل غير ما فعله الفونج والأتراك . ولكن الفرق أن حكم الخليفة لم يدم طويلا، فلو استمر ربما كان استنبط نظما ووثائق للتمليك لتقنين الواقع الجديد.. فوثائق التمليك ما هي إلا تقنين لواقع طبقي واجتماعي وهي نتاج تطور تاريخي طويل..