الخطابات العشوائية وآفة التلاعب بالشعور الوطني

0 511

كتب: د. الوليد آدم مادبو

.

على بؤس خلفياتهم الثقافية والفكرية، كثيرٌ من الساسة السودانيين – لا سيما اولئك العسكريين الذين تولوا سدة الحكم في البلاد دون أدنى استحقاق – يرتجلون الخطب فيقعون في أخطاء سياسية ودبلوماسية مقيتة، اذا لم نقل سخيفة. لماذا لا توكل هذه التقارير الصحفية – الشفهية منها والمكتوبة – لمتخصصين كي يضبطوا فحوى ومنطوق هذه البيانات احتراماً للمواطنين وتقديراً لافهامهم؟ لماذا لا يُسند أمر الاستراتيجية الإعلامية – خاصة في زمن الحرب – لخبراء كي يضعوا الموجهات العامة ويحددوا الخطوط المحورية التي يلزم إتباعها حال تبدل الموقف على الأرض سياسياً أو عسكرياً؟ ذلك حريُّ أن يجنب الدولة مشكلة الوقوع في حرج يصعب تلافيه سيما إذا ما تكلمت شخصية سيادية ولم تكتف بإيكال أمر التقارير اليومية للناطق الرسمي.

لم تكن الحربُ يوماً شأناً عسكرياً محضاً، فهناك تقاطعات سياسية ودبلوماسية واقتصادية هي التي تؤثر في مسار المعركة وقد تحدد مخرجاتها، لكن تبقى إدارة ساحة المعركة شأناً عسكرياً محضاً. ما نراه اليوم في السودان أمراً مثيراً للريبة، ذلك أنّ للقادة، الكباشي وياسر عطا مثالاً، توجهين استراتيجيين مختلفين، فالأول ينادي بالرجوع للتفاوض دون خطة ذات معالم واضحة والأخر يريد أن يتمادى في الحرب دون وجود أدنى وسيلة للانتصار على الصعيد الميداني. يبدو أن كلا الرجلين يسعيان تكتيكياً لكسب الوقت لكنهما لا يجيدان البحث عن مخرج استراتيجي يجنب البلاد مغبة التشظي. لقد تعودنا في هذا البلد على خطابات رعناء من مسؤولين حمقى، أخرهم “الهبنقة” (الأبله) عمر البشير الذي لا يمكن تتبع هفواته لكثرتها، لكننا لم نكن نتوقع سقوط عاصمة البلاد وضياع هيبة الدولة، فيما يستمر القادة العسكريين في سبهلليتهم، استمرائِهم للكذب وسخرية بعضهم من بعض في شؤون ذات طابع شخصي كالسُكر أو الكُفر. لا تزعجني في سيرة الجندي، سُكره أو عهره، فإنّا لم نعهد له تولي الإمامة، قدر ما يُريبني جبنه، عدم أمانته، وعجزه. هل يبرأ قادتنا العسكريون اليوم من إحدى ثلاث؟

لا أود أن أخوض في الجدل الذي دار عن الفيديوهات التي عرضت حميتي مخاطباً جنده، أو ياسر عطا متبختراً وسط عسكره أو البرهان متوشحاً سلاحه في غرفة قيادته، فهذه العنتريات ما عادت مهمة. هناك بلدٌ مستباحٌ وأرضٌ محروقةٌ وإرادةُ مسلوبة وشعبٌ مغلوب على أمره وأممُ مهمومة. ما يهم ألان هو كيفية الوصول إلى حل تمليه الإرادة الوطنية وليس الغربية أو الخليجية فهؤلاء من المفترض أن يكونوا ميسرين وليس أوصياء معتمدين. حسب المعادلة السياسية والعسكرية الحالية لا يمكن الوصول إلى حل أمثل، لكن يمكن القبول بتسوية (deal) تُخرج قادة كلا الفريقين من القوات المسلحة ومن قيادة الدعم السريع مباشرة من المعادلة الحكمية وبعد ستة أشهر من المؤسسات العسكرية, الاتفاق فيما بينهم على شخصية رئيس الوزراء، إعادة تشكيل هيئة الأركان بعد دمج قيادات معتدلة – حبذا من خلفيات عسكرية – من الدعم السريع، والإعداد للمؤتمر الدستوري في فترة لا تتجاوز ستة أشهر.

مهما برع ياسر العطا في استعراض جغرافية السودان – وغرب السودان خاصة – فهو لن يستطيع أن يبرهن على قومية طرحه أو تدارك الأخدود المعنوي الخطير الذي أحدثته هذه الحرب – ومن قبلها الحروب التي قادتها “العصابة الانقاذية” ضد الهامش – بين الحزام الرعوي وأبناء السودان النيلي وسطي. هذا لا يعني أن حميتي ممثل أمين لقضايا الهامش ولكنّه ميكافيلي بارع استطاع أن يستثير حفيظة قطاع كبير من السودانيين ويوهمهم بأنّ مشاكل السودان تعتمد إلى حدٍ كبيرٍ في اقتلاع دولة المركز وتغيير موازين القوى قسرياً. هذا واقع لا مِراء فيه، خاصة في بلدٍ تحفه المرارات وتسيره الشائعات. كلما طال أمد الحرب كلما ازدادت فرصة الانحيازات القبلية والعرقية والمناطقية. الأدهى، أضرمت دون هوادة نار الحروب الأهلية. عليه، فلابد أن يتدارك القادة العسكريين الأمر ويصلوا إلى تسوية تحافظ على ما تبقى من هيبة للجيش وتسعف البلاد من التمزق والهوان.

أمّا حديث حميتي عن الديمقراطية فمجرد هُراء القصد منه تلهية المجتمع الدولي وأتباعه من العملاء المحليين الذين ليس لديهم أي وزن شعبي أو جماهيري وجل ما يطلبونه هو التربع على عرش “الفترة الانتقالية” التي لم يدركوا غايتها، إنّما عوّلوا عليها كلافتة أو حِقبة يمكن إطالتها باسم المدنية أو الديمقراطية. الحديث عن حكومة مدنية يستلزم وجود تصور عن هذا المكون المدني الذي لا يعدو كونه عصابات وأفراد حازت مواقعها في شتى الاحزاب السياسية والنقابية بوضع اليد، بل إن منهم من ساعده جهاز الأمن فترة الثلاثة عقود الماضية ووفرت له لاحقاً القوات النظامية حيل الاستحواذ على هذه المواقع نسبة لما اثبته من ولاء للقوات المسلحة (قحت فرع الكتلة الديمقراطية) أو “للقائد” شخصيا (قحت فرع المجلس المركزي). إذاً هم عسكريون في ثياب مدنية ولن يقبلهم الشعب مطلقاً ممثلين له في المرحلة القادمة!

لا يهمني أن يكون فيديو الأمس (٢٠٢٣/٧/٢٧) مسرباً أو ملفقاً، ما يهمني هو العقلية التي تطالب بوضع “الكلباش” في أيدي من يترسم مقاليد الأمور ويجلس على كرسي القائد الأعلى للقوات المسلحة، هذه رمزية يجب على حميتي احترامها، فالاستهزاء بها يعتبر إنتهاك لقدسية البلاد وإساءة لجماهيرها التي تريد التخلص منهما بصورة مؤسسية. ثانيا، لم يتعرض المتكلم أو من ينوب عنه للإبادة الجماعية التي تعرض لها شعب المساليت من قبل قوات منسوبة للدعم السريع، كأنما هذه الشعوب النائية لم بعد حيزاً في الذاكرة الجمعية للمجموعة العسكرية والدعم السريع خاصة.

ثالثا، تعرض الخطاب المرسل على استخفاف ووجل للتعدي على المواطنين المتمثل في سرقة مقتنياتهم وانتهاك أعراضهم وإخراجهم من بيوتهم في العاصمة المثلثة على أساس أنّه تفلتٌ، مجردَ تفلتٍ، علماً بأنّه وما زال سلوكاً ممنهجاً ودربا ملتويا اتبعته قوات “القائد” منذ اليوم الأول. هل يمكن أن تكون كل هذه القوات منفلتة؟ إذاً ما هي جدوى الاحتفاظ بها وهل يمكن لقوات بمثل هذا السلوك البربري أن تؤتمن على إقامة دولة الكفاية والعدل؟ يجب أن يدرك حميتي (أو من ينوبون عنه) أنّ الشعب لا يفاضل بينه وبين البرهان، أو بينه وبين الكيزان، وأن مسألة “الفلول” هذه لا تتعدى كونها “إختلافُ لِصَّيْن” حول الغنيمة التي هي الذهب أو البترول أو المواد الاستراتيجية.

إن خلفيتهما الإجرامية واحدة ومخافر الشرطة المحلية والجنائية الدولية قد دونت سوابقهما في دارفور، ساحة الاعتصام، ومؤخراً هذه الحرب المصيرية التي اقتضتها ضرورة التخلص من وصايتهما على الشعب. لا يمكنهما – حميتي والبرهان – أن يطلبا أفضل من العفو وعدم المساءلة على ما اقترفا من جرم في حق الشعب (immunity)، فليحرصا على ذلك ولا يطمعا في الحكم أو الاستحواذ على ثروات البلاد بعد ما أحدثاه من أضرار معنوية ومادية.

ختاماً، إن الغربيين يخاطبون شعوبهم وفق برامج وخطط واستراتيجيات ونحن هنا يلهونا بأمثال شعبية بائسة وأقوال سوقية تافهة (“ناس الشجرة بسلموا عليكم”، “تمطر حصو”، “جيبوا جيشكم وتعالوا” …. ، إلى أخره)، حتى من يتكلم لغة سليمة تراه لا ينجو من التسويف والكذب. صحيح أن هناك فوارق حضارية عظيمة تجعل الانضباط السلوكي عندهم ذات قيمة نفعية وأخلاقية، لكنّه أيضاً النهج التداولي في الحكم الذي يجعل الناخبين يحرصون على انتداب أصحاب التأهيل، الرجاحة والعقل. كلينتون وهو على ما هو عليه من نباهة (رابع دفعته في جامعة ييل)، كاريزما (ثاني أصغر رئيس للولايات المتحدة)، وفِطْنَة (رابع افضل رئيس من حيث الاداء الاقتصادي)، تمر خطاباته وخطابات أي رئيس أمريكي على ثلاث لجان: مفاهيمية، لغوية، ونفسية/ إجتماعية، ولا يسمح لهم بالتصرف إلا بهامش معقول. أمّا هنا فيتكلم الخطيب بما تجود به قريحته ويهوش فلا تسع المنصة لعرْضاته ورقْصاته – الأمر الذي لم نشهده حتى في مناحي قارتنا الأفريقية. وهناك من يُكَبِّر ويردد خلفه “الله أكبر” (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (الأعراف: 28)) صدق الله العظيم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.