“لا للحرب” أم لا للقوات المسلحة والكيزان!

0 149
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
جاءت الحرب الناشبة في السودان إلى حلف الجماعات الليبرالية والحداثية واليسارية في قوى الحرية والتغيير (قحت) بخصوم هم القوات المسلحة ومن ورائها الإسلاميون من جانب، والدعم السريع من الجانب الآخر.
وتحكّم التاريخ السياسي المعاصر في طرائق أخذ “قحت” بهذه الأطراف في الحرب. فنشأ جيل هذه الجماعات وفطم منذ الستينيات على خصومة سياسية مع القوات المسلحة والإسلاميين بلغت شعواؤها ببعضهم مبلغ البغضاء المطلقة، فاكتسبوا معارفهم السياسية وخبرتهم من فوق معارضتهم للنظم العسكرية الثلاثة، الفريق إبراهيم عبود والمشير جعفر نميري والمشير حسن أحمد البشير، التي حكمت السودان مدة 53 عاماً من أصل 67 عاماً هي سنوات الحكم الوطني منذ استقلال السودان عام 1956.
وتجمرت تلك الخبرة من فوق ثلاث ثورات في 1964 و1985 و2018 أطاحت بتلك النظم واستردت النظام الديمقراطي لحين. أما عن الإسلاميين فحدث ولا حرج. فقد كرهت جماعة الحرية والتغيير في صورها المختلفة مشروعهم في أسلمة الدولة منذ الستينيات بغض النظر عن طبيعة الفضاء السياسي.
وكان الإسلاميون رأس الرمح في عرض مسودة مشروعهم للدستور الإسلامي على البرلمان عام 1968 الذي عطله نميري بانقلابه عام 1969 قائلاً إنه لا يساوي الحبر الذي كتب به. ولكنه عاد هو نفسه ليحكم به في مغرب دولته عام 1983 عبر حلف وثيق مع الإسلاميين حتى الإطاحة به عام 1985. ومعلوم أن الإسلاميين حكموا بالشريعة ما وسعهم بعد انقلابهم عام 1989 وحتى إزاحتهم في 2019.
وبوسع المرء أن يرى من هذا النزاع المتطاول كيف اتفق لـ “قحت” ألا تنأى عن طرف القوات المسلحة والإسلاميين في هذه الحرب وحسب، بل أن تستعديه باتهامه ببدء الحرب وتحميله وزرها. وكان من الصعب على قوى الحرية والتغيير، وقد عادت الجيش والإسلاميين بلا رجعة، ألا تبدو جانحة في نظر كثيرين لطرف “الدعم السريع”.
ومع ذلك فحظ “الدعم السريع” من خصومة “قحت” لا يقل عن خصومتها للجيش والإسلاميين. فلم تكف عن الاحتجاج على تلطيخه دارفور بالدم خلال عهد الإنقاذ، في ما وصف بجرائم الحرب والإبادة، واحتجت عليه بقوة لما طاول عنفه المقاومة المدنية في الخرطوم بقمع احتجاجات سبتمبر (أيلول) 2013 بكلفة فادحة في الأرواح. وصار حل “الدعم السريع” ودمجه في القوات المسلحة بعد إصلاح شأنها من ثوابت “قحت” بعد الثورة.
وكان خيار قوى الحرية والتغيير بين الطرفين الشريرين في الحرب أن تدعو إلى وقفها. ولكن كان من الصعب عليها، وقد حمّلت الجيش والإسلاميين جريرة بدء الحرب جزافاً بلا تحقيق وثيق، ألا تبدو مائلة في نظر كثيرين إلى طرف “الدعم السريع”. فلن تجد الواحد من “قحت” ينبري بعد السؤال في المقابلات الصحافية والتلفزيونية بصورة مستقلة لإدانة احتلال “الدعم السريع” للدور في بيوت الخرطوم والاحتماء بها وسرقة مال أهلها. فما سئل عن جريمة الحرب هذه إلا وتجده مضطراً إلى الإتيان بفظاظة القوات المسلحة بغير حاجة ملجئة، كما أن ثمة تعاقداً بين المتحدثين من “قحت” على تهوين جرائر “الدعم السريع” بذريعة أنها في الأصل من جرائر القوات المسلحة والإسلاميين التي خرج من رحمهما. فمن شابه أباه فما ظلم.
وأوضح ما يكون جنوح “قحت” إلى التهوين من فظاظات “الدعم السريع”، إن لم يكن تبريرها. في مثل ما جاء في مقالة أخيرة لمدير “مركز الخاتم عدلان للاستنارة”، الباقر العفيف، إذ شدد النكير فيه على الإسلاميين الذين قال إنهم أرادوا من إثارة الحرب ودفع القوات المسلحة إلى حومتها ارتجالاً العودة للحكم. فرماهم بأجرام قامت الدلائل المشاهدة والصريحة بأنها من فعل غيرهم. وحمّلهم جريمة مذبحة فض الاعتصام أمام القيادة العامة في يونيو “حزيران” 2019 التي لم يطرأ لأحد من قبل نسبتها إلى الإسلامين إلا كمستفيدين منها للتضييق على الثورة التي أطاحت بهم في أبريل (نيسان) من العام نفسه. فجريمة هذه المذبحة معلقة برقبة “الدعم السريع” والقوات المسلحة بالاشتراك بينما غلب مجندو الأول في الفيديوهات التي صورت لها. فالإسلاميون، في وصف العفيف، من قتلوا شباب مدينة الاعتصام واغتصبوا شاباتها وأحرقوا خيمها وأزالوا جدارياتها وتركوها هباء منثوراً تذروه الرياح.
وأقام العفيف الدليل على ارتكاب الإسلاميين للمذبحة بما برأ “الدعم السريع” منها مرة واحدة. فقرأ مسرح الجريمة ليخلص إلى تلك البراءة قائلاً “فالبداهة تقول إن إلقاء الجثث في النيل بعد ربطها بكتل خرسانية، في محاولة لإخفاء معالم الجريمة، ليست مما يعرف من ممارسات الجنجويد. فهؤلاء يقتلون ويحرقون ويمضون إلى حال سبيلهم. أما الكيزان (الإسلاميون) فيستخدمون أساليب المافيا والجريمة المنظمة في محاولة محو آثارهم بعد كل جريمة. وكذلك يستخدمون الحيل الإعلامية لخداع الشعوب وتضليلها مثل إطلاقهم الفيديوهات التي تظهر الجنجويد في ميدان الاعتصام وهم يدوسون بأحذيتهم رؤوس الثوار بينما الجثث متناثرة في الميدان. فاعتبرهم الجمهور المسؤولين عن القتل على رغم أنهم كانوا مسلحين بالعصي”.
ثم ما لبث في موضع آخر أن عيّن العفيف المتهمين حقاً. وهما الجيش و”الدعم السريع”، اللذين، في قوله، ارتكبا جريمة فض الاعتصام متحالفين ثم صارت بينهما العداوة والبغضاء والحرب فعاد للحق من غير أن يدري.
ولم تسلم “قحت” من الاتهام بإثارة الحرب. فقال الإسلاميون إنها هي التي زجت بالقوات المسلحة في الحرب لتعطيل التوقيع على الاتفاق الإطاري مع “الدعم السريع” و”قحت” بعد استكمال المفاوضات حول الإصلاح الأمني والعسكري التي قاربت نهايتها منتصف أبريل الماضي.
وشواهد الإسلاميين على جرم “قوى الحرية والتغيير” لا تقل ظرفية عن شواهد الأخيرة على جرمهم أيضاً. ومهما يكن فعلى “قحت” أن تتصالح مع فكرة أن هذه الحرب خرجت من رحم الاتفاق الإطاري، إذا كان هذا المجاز على أيامنا، وهذا بالطبع غير القول إنها هي من حرض “الدعم السريع” على قتال القوات المسلحة كما يرى الإسلاميون. كما أنه أيضاً غير ما تذيعه “قحت” من أنه لولا تحريض الإسلاميين على الحرب لوقّعت القوات المسلحة و”الدعم السريع” على “الإطاري” وسلمت البلد إلى يوم الدين.
وكان “الإطاري”، خلافاً لقول “قحت” أنه كان مناط خلاص الوطن، مفخخاً خفيت عللهُ عن “قحت” والمجتمع الدولي معاً حتى شب حريق الحرب من فوهته. وسنكتفي هنا باثنتين من علله.
كان الصحافي مات ناشد نبّه في مجلة “نيوز لاين ماقزين” إلى دور الدبلوماسية الدولية و”قحت” في تهافت “الإطاري” على الحرب. فقال إنه على رغم تفاؤل الدبلوماسيين الغربيين بالاتفاق الإطاري إلا أنه عانى عواراً كثيراً. فبالغ “الإطاري” في طموحه ولم يتسم بالشمول للطيف السياسي ولم يحظ بتأييد واسع. فاتفق لهم أنهم سيعالجون به مسائل في تعقيد العدالة الانتقالية والإصلاح الأمني والعسكري خلال أسابيع بل في أيام قليلة. وهي مما يتطلب شغلاً مراً ودؤوباً من التفاوض النير والعون العالمي وجدولة وآليات مدروسة للتنفيذ، وقد لا ينجح مثله مع ذلك.
وأضاف ناشد أن الدبلوماسيين و”قحت” كانوا في عجلة من الأمر. فأراد الدبلوماسيون بتوقيع الاتفاق رفع الحرج عن بلادهم لفك حظر الأموال عن السودان ليستتب اقتصاده المتهافت. بينما أرادت “قحت” من جهتها العودة للحكم بأعجل ما تيسر، في عبارة مشهورة للإمام الصادق المهدي.
ولم يضع أي منهما اعتباراً للمخاشنة الناشبة بين الجيش و”الدعم السريع” والمعلومة لـ “قحت” لأنها تدخلت أكثر مرة لنزع فتيل النار منها. وجاء ناشد بكلمة من دبلوماسي غربي قال “إن هذه الأزمة الماثلة من صنع المجتمع الدولي” بمناداتهم الطائشة بالحاجة إلى اتفاق معجّل. فلم ير أولئك الدبلوماسيون في عجلتهم لقضاء عيد الفصح في بلادهم النار من تحت ترتيباتهم المستعجلة. واستغرب هذا الدبلوماسي أنه لم يعد أي من هؤلاء الدبلوماسيين للسودان بعد تحشيد “الدعم السريع” لقواته في مطار مروي. وهو تحشيد رأى الجيش منه ضربة استباقية لتحييد شوكته في سلاح الجو الذي هو ميزة لا يطاولها الدعم. فسارع الجيش يومها إلى التحذير من العواقب الخطرة على الأمن إن لم يسحب “الدعم السريع” قواته من مروي. ووقعت الحرب بعد يومين من ذلك التحذير.
أما الوجه الآخر من عوار “الإطاري” فهو أن “قحت” جاءته على وهن مما شهد به المندوب الخاص للأمم المتحدة في السودان فولكر بيرتس نفسه. فكانت وحدها بين قوى “الإطاري” التي لم تعد إلا صورة شبحية من نفسها. فنزفت طاقتها نزفاً خلال أعوامها الثلاث في الحكومة الانتقالية. فلم يعتزلها الحزب الشيوعي عند عتبة توقيع الوثيقة الدستورية في أغسطس “آب” 2019 وحسب، بل قرر أيضاً إسقاط الحكومة الانتقالية نفسها.
وجاء وقت اعتزال حزب البعث العربي لها على عتبة مفاوضاتها في سبيل الاتفاق الإطاري. وجاءها الضعف العظيم من جانب تقطع أسبابها بلجان المقاومة. فكأنها بذلك حلت جيشها السياسي الذي أسعفها في الملمات باحتلال الشارع كإرادة غلّابة. بل ساء ما بينهما حتى كان هتاف شباب المقاومة “قحاتة باعو الدم”، أي أنهم خانوا دم شهداء الثورة.
ولم تأت قوى الحرية والتغيير إلى مفاوضات الإطاري بالجمهرة التي حشدها الإسلاميون المستبعدون منه في الشارع لتعطيله. ولم يكن لها من سبب لمواصلة السير في سكة “الإطاري” الخطرة إلا شعور نبيل منهم أرادوا به حلاً للوطن الذي صار “على شفا حفرة” في عبارتهم، وكان تمسكهم بمواصلة طريق “الإطاري” المفخخ منهم كفارة للشعب عن ارتباكهم الكبير في فترة كانت مقاليد الحكومة الانتقالية بيدهم لا استراتيجية.
ولن تكون دعوة “لا للحرب” مبرئة لذمة “قحت” وقد أخرجت الحرب أثقالها من مجريات اتفاقها الإطاري المهتوك كما وصفناه. وستضل عن الإحاطة بحقائق الحرب لو جاءت إلى تحليلها والموقف منها بما تراكم في نفسها من صراعها الطويل الشقي مع القوات المسلحة والإسلاميين. كما لن تشفع لها دعوتها الحيادية هذه بوقف الحرب عند كثير من المشفقين عليها، وهم يرونها تتطابق مع “الدعم السريع” بغير اتفاق ومن دون تحقيق حول من بدأ الحرب، ولماذا؟ ومن هو الأشد فظاعة فيها مثلاً؟ وقد قيل “إذا مشيت كبطة وتكلمت كبطة فالراجح أنك بطة”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.