من تاريخ المسلمين في الحبشة: أندلس طبعة لاحقة
كتب: د. عبد الله على إبراهيم
.
(من كتابي “من اثيوبيا إلى السنغال: إسلام أفريقي، تحت الطبع)
(انتهز سانحة وقوفكم على هذه العاطفة الدينية لمسلمي أثيوبيا للتغلغل في المواجع التي صدرت عنها في التاريخ الأثيوبي)
صدر في 1876 فرمان عن المجلس الكنسي في الحبشة يقضى بأن البلاد مسيحية أرثوذكسية وعلى المسلم فيها إما أن يرتد عن دينه ويتنصر إما أن يهرب بدينه إلى بلد يأويه. وكان قد دعا إلى هذا المجلس الإمبراطور يوحنا المشهور في السودان ب “ملك الحبوش” والذي مات إثر جراح اصابته في معركة المتمة الحبشية ضد المهدية في 1889. وتأذي المسلمون، الذي يبلغ تعدادهم ثلث السكان بتقدير متواضع، من هذا الفرمان كثيراً.
صدر هذا الفرمان في سياق مساع عدد من قادة الصفوة الإقطاعية المسيحية لتوحيد الحبشة في كيان إمبراطوري معلوم ورثنا عنه أثيوبيا الحديثة كدولة ووطن. ولم يكن هذا أول فرمان مسيحي يٌخَير المسلمين بين التنصير والهروب بدينهم في الآفاق. فقد سبق إلى ذلك الإمبراطور فرديناند وزوجته إيسابيلا عام 1499. فبعد سقوط الأندلس في أيديهما سعيا إلى بناء دولة أسبانيا على سنة العقيدة الكاثوليكية لا غير. فصدر فرمان في 1492 جَبر اليهود على التنصر أو إعطاء قفاهم لإسبانيا. ثم جاء دور المسلمين للانتحار الديني أو ترك الوطن بعد سبع سنوات من محنة اليهود.
لم تدخل محنة المسلمين في الحبشة واعية المسلمين كما دخلت محنة الأندلس. وهذا مبحث لا نريد له أن يعطلنا دون ما أردنا الحديث عنه اليوم. ومع أن محنة المسلمين سواء في الحبشة أو الأندلس مما يحز في نفسي كمسلم إلا أننا لم نأت للنظر فيهما من زاوية هذه العاطفة وحدها. فالجامع بينهما هو القهر الثقافي الذي كان وما يزال سمة بناء الدولة-الأمة الحديثة. وإذا قلبنا وقائع بناء هذه الدولة-الأمة في كيان الغلبة فيه للمسلمين فلربما أسفرت هذه السمة عن نفسها. وقد نبهنا إلى سداد زاوية النظر هذه كاتب أكاديمي مسلم يوغندي من أصول هندية هو محمود محمداني (وتكتب ممداني) في كتابه: “مسلمون جيدون ومسلمون أشقياء”. فقد قال إن عام 1492، عام سقوط دولة المسلمين في الأندلس واكتشاف أمريكا، هو عام كتب نفسه في التاريخ بمداد القحاحة والدم والظلم. فهو عام بدء عصر النهضة والحداثة الأوربيتين. وبينما يجري تصوير هذين الحادثتين كقمم في التنوير ومحطات متقدمة جداً في مسيرة البشرية إلا أن محمداني يرى فيهما بدء الاستبداد الحديث في العالم. وقد أفرخ هذا الاستبداد في مؤسستين أولهما الأمة-الدولة الموحدة القائمة على الصفاء الثقافي. فهذه المؤسسة لا تعمل بمقتضى لكم دينكم ولي دين بل دينها واحد وهو خير دين يحب. وسخر محمداني من قول القائل إن هذه الأمة-الدولة قد انبنت على الديمقراطية. فالديمقراطية ليست أصلاً في تأسيسها، بل هي لاحقة له ووقعت للأمة-الدولة بسبب مقاومة المستضعفين فيها لإجراءات تهميشهم ونبذهم عن منافعها. أما المؤسسة الأخرى فهي الاستعمار الذي بدأ باكتشاف أمريكا وما ذاق منه أهلها الأصليين (المسميون بالهنود الحمر) من الويلات: نقصاً في الأنفس والثمرات.
يقصر تصوير محنة المسلمين في الحبشة بمصطلح “الصليبية والجهاد” عن الذكاء الذي نستمده من النظر إليها كمحصلة لبناء الأمة-الدولة. ولست أريد بهذا نفي الذاكرة التاريخية الصليبية الجهادية التي ربما غذت هذه المحنة. ولكني أريد التشديد على فظاظة مؤسسة الأمة-الدولة على نحو يقربنا من فهم عبارة ماركس من أن العنف هو داية التاريخ. وسيجد مثل هذا التصوير قبولاً من المرء مسلماً كان أو غير مسلم لأنه سيعمق من فهمنا جميعاً لمؤسسة تأذت منها الأقليات العرقية والثقافية قاطبة وغمار الناس والنساء بلا استثناء.
كان مرسوم يوحنا “ملك الحبوش” في 1876 هو الذروة المأساوية لإجراءات إمبراطورية صممت على توحيد أثيوبيا كبلد مسيحي لا مكان فيه لغير أهل تلك العقيدة. وقد بدأت هذه الإجراءات واشتد عودها على عهد الإمبراطور تيودرس (1855- 1868). فقد كانت عزيمة الرجل، الذي سمى نفسه “عبد المسيح”، في أول عهده أن يٌنَصِر المسلمين في دولته. وقد طلب السيادة السياسية للحبشة كوسيلة لتنصير وإعادة تنصير السكان وتنمية المنعة الروحية والخلقية بين المسيحيين حتى لا تنتكس بلاده فيسودها شعب الأرومو الغالب فيه الإسلام. وقد أوسع تيودروس مسلمي والو، التي تقع في قلب بلاده، نقصاً في الأنفس والثمرات وترويعاً للأفئدة في محاولاته لتوحيد الحبشة. وقد لا قت منه أقاليم أخرى منه هذا البطش. ولكن بعامة مازج عسفه حيال المسلمين حزازة مسيحية تراهم نشازاً ثقافياً في أثيوبيا. والمسيحية عنده في أصل تعريف تلك البلاد. ويذكرنا هذا بالمناقشات التي جرت من قريب حول دستور الاتحاد الأوربي والمادة التي نصت بأن أوربا مسيحية الهوى والهوية. وهذه النظرة الغالبة عن هوية أوربا هي ما حال طويلاً (وإلى تاريخه) دون دخول تركيا إلى هذا الاتحاد. وهذا الاتحاد هو نفسه الذي “يفتش” الدول الأخرى ليري خلوها من مواد دستورية تفخر بما عندها من ثقافة. فكيف تحكمون!
ولم تمر إجراءات تيودور لتوحيد اثيوبيا وكأن المسلمين نشازاً مرور الكرام. فقد قاومه مسلمو مقاطعة ولو لكي يطبعوا هويتهم على الأمة التي استنثنتهم بفظاظة. وقد كتب الباحث الأثيوبي حسين أحمد كتاباً جيداً عن هذه الإجراءات ورد فعل المسلمين عليها ونظرنا فيه لكتابة كلمتنا هذه.
لم يرث يوحنا “ملك الحبوش” عن تيودرس طموحه في توحيد الحبشة وتحديثها فحسب، بل الإزراء بالإسلام أيضاً. فقد عاد ليمكن للكنيسة، التي تأذت من إجراءات تيودروس في تحديث الحبشة، ويقصي الإسلام ليبني دولة موحدة على سنة المسيحية. وهي مسيحية استبعدت حتى مللها التي انشقت عن الكنيسة الرسمية. وهي ملل موصوفة ب”المهرطقين”. فقد دعا مرسومه في 1878 السابق ذكره المهرطقين للعودة إلى كنف الكنيسة كما دعا المسلمين إلى اعتناق المسيحية لأنه لا مكان للإسلام في جغرافيا إيدلوجية يوحنا. وقد استرجع المجلس الكنسي ذكرى من القرن الخامس عشر كاد فيها الأمير المسلم أحمد قران أن يفتك بالعرش الأثيوبي ويقضي على دولة الحبشة المسيحية لولا نجدة البرتغاليين لهما. وهكذا شاب المرسوم إحن الماضي. وقد وعد المرسوم الملكي بتأمين المرتدين عن الإسلام في مالهم وأنفسهم. وطلب من العصاة أن يتركوا الحبشة لأنها ليست من أوطان المسلمين كما تقدم. فهم أمة لوحدها في قلب البلد المسيحي. ومن أغرب ما جاء في المرسوم هو إلزام المسلمين ببناء الكنائس ودفع الإتاوة للقسس. ومنع من أن يرفع الآذان أو تتحجب نساء المسلمين. وقد صب يوحنا جام غضبه على مدينة قالو التي كانت مركزاً ثقافياً حياً. وأنشأ كنائس جديدة في 1880 وأمر مسلمي مقاطعة ولو وغيرهم بتعميد جماعي في المسيحية. وأحرق نواب يوحنا الكتب الإسلامية في إقليم شوا كما ذبحوا 20 ألف مسلم تعالوا بإسلامهم وما بدلوا تبديلا.
كتب المؤرخ حسين احمد كتاباً طيباً عن مقاومة مسلمو مقاطعة ولو لمرسوم يوحنا. فقد قاوموه بقلبهم ولسانهم ويدهم. أما مقاومة القلب فقد تمثلت في إظهار الكفر واخفاء الإيمان. فهم مسيحيو النهار مسلمو الليل سجوداً وقياما وتهجداً. ًواعتنى حسين بصورة خاصة بذكر جهاد الشيخ طلحة. وكان عالماً ضليعاً كتب نصوصاً دينية بالأمهرية أيضا.ً وقد عبأ الشيخ المسلمين فحرقوا الكنائس التي أٌمروا ببنائها وطرد القسس الذين ابتعثوهم لتنصيرهم. وقد انتصر الشيخ على قوى يوحنا بقيادة البنجراوند ناوطي نصراً حفظته قصيدة نظمها في الأمهرية شاعر بلاط مسيحي قال فيها:
على ما يبدو من أنني أمدح عدواً
غير أنه ليس من يفوق الحاج طلحة
فأنفاسه تخيب ظن الرصاص في السداد
بينما تسوي جبهته الجبال
فهو بغير مثيل بين الرجال
وحين احتاج البجرواند ناوطي مٌطَهراً من شجرة كوسو (لعلاج الديدان):
انتظره طلحة بخلطة شافية
وعَرَّى ضعفه عند نهر كيكلو
ووقف الناس جميعاً على كيف تهافت البجروند وانغلب
وكان هذا هو طلحة الذي وصفه قائد من قواد يوحنا يوماً بأنه “فكي” أطاش القات لبه فجمع المسلمين من حول ينوي شراً ويرتكب عنفاً. وقد وبخ يوحنا هذا القائد الذي لا يحسن تقدير سعة حيلة خصمه. ومما يذكر أنه كانت للشيخ مكاتبات مع المهدي غير أن الخليفة عبد الله هو الذي وجهه للثورة على يوحنا. وقد التقى بالخليفة في السودان وانضم لحملة الأمير أبوعنجة الذي دمر قندار في 1881. غير أن الشيخ طلحة ساءه سوء الإدارة في دولة المهدية وعاد أدراجه لبلده ليقاوم منليك الذي جاء بعد يوحنا في 1889.
ولم تمنع سماحة منليك الدينية (الذي ألغى فرمان يوحنا لعام 1878) من أن يقول لزعماء مقاطعة ولو المسلمة، وهو ما يزال ملكاً على إقليم شوا الأمهري ولم يصبح إمبراطوراً بعد، إنه إنما جاء إليهم رسول رحمة يدعوهم إلى تعميد انفسهم مسيحيين ليرتعوا في مباهج الدنيا وينعموا ببركة السيد المسيح. وفي رأي حسين أحمد المؤرخ أن منليك لم يلغ فرمان يوحنا سماحة منه أو تقدمية. فقد رأى بأم عينه مقاومة المسلمين للمرسوم التي لو استمرت لأفسدت عليه حتى مشروعه لتوحيد الحبشة. كما كان منليك قد طوى تحت جناح دولته في آخر الثمانينات من القرن التاسع عشر أقاليم إسلامية في الجنوب والجنوب الشرقي مثل هرر وهو يخشى أن يتسع خرق هذه المقاومة على الرتق. ومع أن منليك قد رفع عن المسلمين الفظاظة الرعناء التي جاء بها فرمان يوحنا فأمِنوا إلا إنه كان أمناً لبعض الدين لا كله. فقد ظلت حزازة الدولة ضد المسلمين بغير تغيير كبير حتى قال مؤرخ “وهكذا فإن لطف منليك البادي تجاه المسلمين منذ أصبح إمبراطوراً في 1889 لا ينبغي أن يؤخذ كفتح جديد قبل به الإمبراطور المسلمين على علاتهم”.
لسنا نثير هذا التاريخ الثقيل طلباً لغير الحكمة. فلسنا نشدد على صليبية منشأ هذه البغضاء للمسلمين وإن لم نعدها لجاجة من جهاد. وقد هدانا إلى حكمة بعض هذا التاريخ الأثيوبي الجريح المؤرخ حسين أحمد فقد قال إننا لا ينبغي أن نركز في مباحثنا التاريخية على أوقات البغضاء بين المسيحيين والمسلمين في اثيوبيا. فهذا تمييز لتلك الفترات السوداء يخلى يدنا من بهاء تلك الفترات الطويلة التي تعايش فيها المسلمون والمسيحيون كمواطنين أحباش بالدرجة الأولى: لكم دينكم ولي دين. فقد باءت بالفشل محاولات أحمد قران لتوحيد أثيوبيا على محجة الإسلام كما باءت بالفشل محاولات الأباطرة المسحيين توحيد اثيوبيا على محجة المسيحية. وقال إن هذا الفشل المزدوج في بناء الدولة على المواطنة لا غير ينبغي أن يكون عظة لا سبباً لنفخ النار في جمره حين نكتب التاريخ. ولله دره.