نمط القبيلة والطائفة في حالة الاحتراب الوطني و عقبات البناء و التحديث و ابتذال المواقف السياسية

0 110

كتب: د. بكري الجاك

.

دون اطالة لابد من الإشارة إلى أن القبائل و الطوائف هي مكونات طبيعية و تمثل قمة الانتماءات الأولية للبشر، و ان كانت الطائفة أكثر تقدما من القبيلة، إذ ليس بوسع الإنسان اختيار قبيلته إلا أنه قد يكون له قدر من الحرية في اختيار طائفته، هذا مع العلم أن هناك وشائج قوية بين القبيلة و الطائفة و علي مستوي التطور التاريخي قد نجد أن بنية الطائفة نفسها تعتمد على قواعد قبلية. هنا ايضا يجب الإشارة إلى أنني استخدم مصطلح “قبيلة” باعتباره حقيقة اجتماعية شغالة لها تأثير على تصورات الأفراد عن العالم وإن كان لا يوجد علميا شيء يسمى قبيلة أو عرق، فالعلم يعرف الاثنيات، و بذلك تصبح القبائل والأعراق مجرد أدوات في تحديد المواقع الإجتماعية مثلها مثل الطبقة الاجتماعية خصوصا في تحديد التراتبيات الاجتماعية القائمة على الامتيازات. فكرة الدولة الحديثة من منظور الاجتماع البشري قامت على خلق عقد اجتماعي أوسع من العقد الاجتماعي للقبيلة والطائفة من حيث السلوك و الخيارات بتحرير إرادة الأفراد لاختيار أنماط الحياة التي يريدون وهذا جوهر الممارسة السياسية في الفضاء العام لأن فكرة خيارات الناس تقوم على تعريف وإعادة تعريف المصالح العامة و الخاصة.

عليه، ببساطة هنا يمكن مقاربة فكرة التحديث في أنها تسعى إلى تحرير إرادة الأفراد من الانتماءات الأولية التي ليس للفرد القدرة و لا الأدوات المعرفية في اختيارها، فالناس لا تختار قبائلها و في كثير من الأحيان لا حرية لها حتى في اختيار طوائفها. فكرة المجتمع الحديث تقوم على تأسيس مجتمع مدني عقده الاجتماعي قائم على المصالح وليس قرابات الدم الانتماء الطائفي. و هذا ما يجعل فكرة الخدمات العامة وصحة البيئة والموقف من أسئلة الوجود المادي وفرص العمل والحقوق وغيرها ما يشكل انتظام الناس في منظومات حداثية متجاوزة للانتماءات الأولية، و من ثم الاصطفاف وفق هذه الأسس هو ما أنتج عقد اجتماعي جديد أسس لقيام الدولة “القومية” الحديثة التي لاحقا بحكم التدافع الاجتماعي أصبحت دولة وطنية عبر توسيع مفهوم المواطنة والحقوق ليصبح أساسها القانون و الفطرة السليمة وليس الاثنية أو العرق كمكونات جوهرية فى فكرة الدولة القومية.

التطور التاريخي للبنية الاجتماعية في السودان خضع و يخضع لمحاولات تحديث خجولة في عدة اوجه، من بينها التعليم النظامي و جهاز الدولة الحديث من خدمة مدنية وعسكرية، و جهاز الدولة افتراضا قائم على فكرة الميروتوكراسي (الجدارة) التي تقوم على معارف حديثة، بالرغم من أن فكرة الجدارة يمكن أن تصبح معول لتوريث الامتيازات بواسطة إعادة تركيب التراتبيات الاجتماعية التي أوجدتها القبائل و الطوائف في مستوى الانتماءات الأولية كحقائق اجتماعية شغالة. ولم يسلم مجتمع بشري في تطوره من هذه المتلازمة التي قننت للامتيازات و التهميش كأمر طبيعي، و حتى المعالجات السياساتية كخيارات اجتماعية كانت وما زالت تعمل كعمليات تاريخية طويلة و معقدة حتى حين تخاطب جذور و امهات هذه المشاكل الاجتماعية، إذ لا يوجد حل سحري ينهي هذه المظالم بضربة واحدة. محاولات التحديث الأخرى تمثلت في التنظيمات الاجتماعية و السياسية العابرة للانتماءات الأولية.

في ظني أن جل محاولات التحديث في السودان سوءا عبر التعليم النظامي أو المنظومات الحديثة عملت على إعادة انتاج عقل و نمط القبيلة و الطائفة في بنيات يفترض أنها حداثية و تقوم على صراع المصالح في تخليق عقدها الاجتماعي الحديث. و لاحقا تحولت القبيلة الي رافعة سياسية حيث طبعت سنين الانقاذ عملية تسييس القبائل و قبلنة السياسة إلى درجة أن استخدام القبيلة كرافعة سياسية و وسيلة للوصول للقيادة صار أمرا سهلا للحصول على الامتيازات باستخدام مظلة المظلومية الجماعية للقبيلة لحصد مكاسب خاصة للساسة، حيث صار هذا السلوك هو السمة العامة للممارسة السياسية وخطابها السياسي، الذي وصلت تجلياته قمة البؤس في السرديات المصاحبة لحرب الخامس عشر من أبريل، والمؤسف أن حتى محاولات الحراك في المجتمع المدني مع أو ضد الحرب تقوم على تطبيع وتقنين الانتماءات الأولية تارة تحت مظلة التمثيل و الشمول و تارة أخري بأنها أسرع وسيلة للوصول للقواعد للتأثير عليها، وفي ذلك ردة عظيمة لممارسة الحياة الاجتماعية بشكل عام و لم تسلم من ذلك حتى ما يسمى بالقوى الديمقراطية.

تجليات نمط و عقل القبيلة والطائفة تبدو بائنة في ممارسة الأحزاب الحديثة و النقابات و جل الكيانات المدنية التي يجب أن تكون افتراضا قائمة على إعادة تعريف المصالح، إذ تتجلى هذه الممارسات في تحويل القائد في بنية حديثة (افتراضا) إلى شيخ طريقة أو زعيم قبيلة و يتحلّق الناس حوله كحورايين و مريدين، و ايضا نفس عقل القبيلة والطائفة يقدس و يبجل الرجال كبار السن و لا يعطي تقديرا للنساء و الشباب باعتبار أن ادوارهم الاجتماعية في هذه البنيات التقليدية تتمثل فى تقديم الولاء و الطاعة و لا يعتد كثيرا بمعارفهم وخبراتهم. و ما يحدث هو إعادة إنتاج للقبيلة والطائفة في منظومات هي كان يجب أن تكون معاول للحداثة و وسائل لتخليق عقد اجتماعي على أسس حديثة، وفي ظني لم تنجو منظومة اجتماعية قديمة او حديثة من هذه الممارسة، بل الأدهى و الأمرّ أن الحرب الدائرة الآن تتسع وفق نفس هذا العقل و نمط السلوك و الممارسة. يحدث هذا في الوقت الذي كانت الانتماءات الأولية من قبائل وطوائف في حالة تراجع و ذبول لأنها لم تعد قادرة على لعب الدور الاجتماعي في الوساطة أو الوكالة بين الدولة كجهاز حديث والأفراد في إطار معارك الحقوق، إلا أن ضعف البنيات الحديثة و تخلقها على شاكلة البنيات التقليدية فرض شروط انتقال اجتماعي صعبة و معقدة للغاية، إذ أن القديم يموت و الجديد يتخلّق بمثل جينات القديم، عليه يصبح الانتظام الاجتماعي مشوها وغير منطقي فى جل الأحيان و مربك، و يمكن تتبع هذا الارتباك في السرديات التي تحاول أن تشرعن اجتماعيا للحرب بأنها حرب كرامة ضد غزاة من صنع الدولة نفسها أو أنها لإنهاء دولة 56 كرمزية اجتماعية للمظالم و التهميش. تجلي آخر لنمط القبيلة و الطائفة هو “عقدة المؤسس” Founder’s Complex وليس لعقدة المؤسس هنا علاقة بمن يطلق عليه بعض المريدين في الوسائط الاجتماعية بنفس نهج الطائفة على “المؤسس”، بل عقدة المؤسس هنا تعني أن الفرد الذي يقوم بتأسيس منظمة او حزب او غيره سوف لن يغادر المكان إلا بالموت مثل شيخ القبيلة و شيخ الطائفة، هل سمعتم يوما بأن هنالك شيخ طائفة او قبيلة استقال أو قرر الذهاب لمكان آخر لتأسيس شي جديد؟ هذا بالضبط ما يفسر سلوك “الكنكشة” في المجتمع المدني بأحزابه و نقاباته و طرقه الصوفية و إداراته الأهلية و بقية كياناته، في حين أن التفكير الذي يورث الحكمة هو أن يبني الفرد شيء مع الحرص على ديمومته دون وجود المؤسس. في بلاد السودان لا تتغير الوجوه في كل شيء وهذا ليس صدفة.

في اوائل الالفينات حدثت لي حادثة مهمة أثرت على طريقة تفكيري بشكل كبير، و كنت حينها قد خضت تجربة العمل المسلح و كفرت بالعمل السياسي بشكله التقليدي، و للتاريخ لم أنضم لأي حزب أو جماعة منذ عام 1999 رغم دعمي المعلن في فترة ما لمشروع السودان الجديد قبل أن يصبح نسيا منسيا، و رغم ذلك يصر الناس في كثير من الأحيان على تعليب الأفراد بنسبهم الى منظومات ليسهل تسفيه فكرهم و تجاهل رأيهم وهو ما اسميه بابتذال المواقف السياسية لأنه لا يقوم على مقارعة الفكر بالحجة و المنطق. ولعمري لهذا ايضا علاقة بفكرة القبيلة و الطائفة، فكيف للفرد أن يكون حرا مستقلا في فكره فلابد أن تكون اما شيخا او حوار او تابع لعمودية حسب التصورات الاجتماعية المحركة للمخيلة الاجتماعية. الشاهد أنني كنت شابا يافعا حينها وبنفس عنفوان الشباب، رغم الانكسار والخيبة التي لازمت تلك التجربة، و كنت في مصوع الميناء الرئيس لارتريا، حيث كنت أعمل في منظمة امريكية بعد أن تركت العمل المعارض، و للذين يعرفون مصوع يعلمون مدى ارتفاع درجات الحرارة والرطوبة في شهور الصيف بالذات في أغسطس، وكنت أقود سيارة حينها و في منتصف النهار وجدت في الطريق رفاق سودانيين عرفتهم من حديثهم في طريقهم من احدي الهوتيلات وهم يترجلون من هوتيل آخر، وفي وقتها كانت كل هوتيلات المدينة قد تم حجزها لمؤتمر التجمع الوطني الثاني، وركب معي في العربة حينها اليابا جيمس سرور و المناضل يوسف احمد المصطفي عليهما رحمة الله، و حين اوصلتهما الى هوتيل سنترال أصرا على أن أحضر وأسلم على الناس وتناول وجبة الغداء، وبالفعل بعد لحظات وجدت نفسي في تربيزة كان فيها بالإضافة لليابا جيمس سرور ويوسف أحمد المصطفي الاستاذ فاروق ابوعيسي و آخرين لا اذكرهم جيدا لكن أظن أن جميعهم غادروا الفانية عليهم رحمة الله اجمعين. المهم أن الحديث أخذ منحى الذكريات بين هؤلاء الرجال و بدأو يسردون أين كان كل منهم يوم 25 مايو حين قام نميري بإذاعة بيان الانقلاب، وبعد الاستماع لفترة لم تسعفني خفة الشباب من توجيه سؤال للجميع، والذين بينهم من لا اعرفهم و لكنهم من نفس الجيل من واقع الحكي، و تفوهت بالسؤال ” هل كان جميعكم قيادات سياسية حين تم اذاعة بيان انقلاب نميري؟ و أردفت سائلا ألا تعتقدون أن هذا أمر غريب إذا انكم نفس القيادات بعد 31 عاما و كأنما أن نساء السودان توقفن عن الإنجاب؟ طبعا لكل منكم القدرة على تخيل الطريقة التي سيٌنظر بها إلى هذا “الشاب الشليق” الذي يجلس وسط هؤلاء القامات و يملك الجرأة على الكلام بدلا من أن يكون صامتا وفي أحسن الأحوال أن يحمل الابريق.

خلاصة القول، أن الحرب لم تهبط من السماء وأن لها شروطها الاجتماعية التي ساهمت في إشعالها بخلق الظروف الموضوعية لها لتحيل حياة السودانيين جحيما بمعني الكلمة بعد أن ظنوا أنهم قد شافو الجحيم سابقا، و أنه من المسيء للمنطق و سلامة الفكر أن يبسط الناس أمر هذه الحرب في أنها بين رجلين معتوهين طامحين للسلطة و إن كان هذا صحيحا إلا أن التاريخ يذكرنا أن هذا الاحتراب لا يحدث في فراغ وأن هناك أسباب بنيوية لا يمكن تجاهلها بما فيها لجوء الدولة السودانية إلى المليشيات عبر تاريخها الطويل و في كل حقبها بما فيها فترات الحكم الديمقراطي للدفاع عن مشروعيتها لأنها فشلت في التعبير عن كافة مكوناتها. و لعقل و نمط الطائفة دور عميق في حربنا المدمرة و سيكون لهذا النمط من الممارسة دور في استمرارها و توسعها ايضا. و ربما الاجدي، بدلا من ابتذال مواقف الناس ضد الحرب و تبسيطها في مع وضد و تخوين الناس من قبل دعاة الحرب، أو النظر للرافضين لها من حيث المبدأ كمنافسين في المجتمع المدني من قبل القوى السياسية التي ما زالت تطمح للسلطة، هو أن نخرج الفضاء العام من قبة الشيخ وجبة زعيم القبيلة إلى رحاب الحوار المعرفي الجاد القائم على الإرادة الحرة واستقامة المنطق و رجاحة الحجة و اخلاقية المواقف، و ان نفتح الفرص للنساء و الشباب للتقدم للقيادة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.