أحمد شاويش: جرد لغناء مختلف
كتب: صلاح شعيب
.
برغم أن بذرة الأغنية السودانية الحديثة التي غرستها، وسقتها، أمدرمان قد تجاوزت المئوية من الأعوام سوى أن المتفردين بنبتة الصوت المفارق قلة.
ومن هنا تأتي أهمية صوت شاويش بهذا التحليق الطروب المتمدد في كل مساحة السلم الموسيقي الذي يناسبه. ولا غرو أن قالت لي الإعلامية الراحلة ليلى المغربي في حوار عند مستهل التسعينات إن شاويش، والسقيد، يهدهدان الغناء، أي “يشكشكانه” كما طالب أحمد زاهر بلوبلو قائلا: “صوتك ده يا حنان شكشي”، وزاهر الماجد في لحنه، ربما رأى أن لا استقامة لصوت الفنان إلا بتمويجه كيفما اتفق له. ذلك حتى يخرج مجوداً فيحتاز الرضا من السميعة، ويسمو بمناخ التطريب. ولهذا فإن منزلة هدهدة شاويش لصوته تقترب من نصيحة زاهر ، بل إنه ليتجاوزها بهمهمات، وكرير أحيانا، أحياناً.
ولو أن تعليق المغربي إزاء صوت شاويش الذي يعده موسيقيون انطباعياً – كونه لا يمظهر علمياً حقيقة فيزياء صوتي الفنانين الكبيرين، وتعريف كنههما في مدارج المعرفة الأكاديمية – فإن محادثة أجريتها مع الموسيقار الماحي سليمان أكدت لي أن حكم ليلى الانطباعي لم يبن على فراغ. لكونها عارفة بالصوت، وتمارسه هي ذاتها لتلوين قراءاتها الشعرية، والبرامجية، بذبذبات لا تختلف عن ذبذبات صوت خضر بشير، والتي وصفها بنفسه بأنه يسايسها لتخرج آخر ما عنده، وفقاً لما قال العبدلابي في حوار تلفزيوني مع الراحل حسن عبد الوهاب.
الماحي أشار إلى أن الفنان شاويش تميز بمجال صوتي واسع. ويعد من الأصوات النادرة، لأنه يجمع بين رنين الباريتون، وقوة الباص. وأضاف أن له مقدرة في تحريك صوته في جميع المقامات الصوتية الحادة، والمتوسطة، والغليظة. وأكد بقوله: “إن أداء شاويش يفسر النص الغنائي، وذلك بتحويله إلى مشهد درامي تعبيري، وأحياناً يكون أداؤه هجيناً بين الغناء، والالقاء الدرامي. إذ ينبس كلاماً عادياً أثناء الغناء”.
الموسيقار يوسف الموصلي في نقاشي معه حول
شاويش وجدته يتفق مع الماحي، فيقول:
هو كان أمام دفعتنا في المعهد..شاويش فنان مميز جدأ، مرات السودانيون بانطباعيتهم يقولون إنه يشبه عركي.. لا أبداً..كل واحد بطريقته.. لا يتشابهان في الصوت ولا في الألحان.. في مرات هناك تقاطعات، لكن أحمد شاويش مختلف في ألحانه، وأداؤه لا يشبه أحداً.. قد تكون هناك مناطق تجمعه مع عركي لكن ليست كثيرة، إنه يختار نصوصاً ممتازة، ومسؤول في اختياراته، وهو ليس بتاجر غناء ليختار نصوصاً يضرب بها سوق الغناء” ويضيف الموصلي بأن الفنان شاويش ذو صوت مقبول ومثلما انتج الحانا كبيرة يستطيع عمل الصغيرة..أصنفه ضمن نوعية الفنانين الذين يحفرون بأصابعهم ليصلوا للمجد الفني الذي يرومون.. إنه اختار الطريق الصعب، لديه أعمال كثيرة أعجبت بها جداً، بل أحببتها..وميزته الأخرى أنه في خشبة المسرح يستخدم لغة الجسد للتعامل مع الجمهور بشكل عميق، ويأسر الجمهور، وقد لا يكون استفاد بشكل كبير من الاتصالبالجمهور..شاويش فنان كبير وملتزم، ومحترم، وقدير، وأكن له الكثير من المحبة”.
اتفاق الموسيقارين الكبيرين – الماحي والموصلي – على فرادة صوت شاويش صحبه أيضاً اتفاقهما على جمال ألحانه. فالموسيقار الماحي سليمان يقول إن الحان شاويش تتميز بالبساطة، والمباشرة، وأنها تعطيك إحساساً بطعم فلكلوري شعبي منمق، وشجي. ذلك لأنه تأثر بتجربة عثمان الشفيع، والملحن محمد عوض الكريم القرشي، حيث أهمية المشاركة في الأداء مع الكورس، وهو ما يسمى بأسلوب الفانتازيا الحرة التي تمطط الميلوديات وتخرج منها أخرى قد تصل لمدى نصف ساعة لو أن الأغنية في أصلها لا تتجاوز السبع دقائق. د. الماحي يرى أن “شاويش من الجيل الثاني من فناني الفترة الانتقالية التي سميناها هكذا لوقوعها بين فترتي التقليدية، والحداثة، ذلك لأنه ظهرت أساليب جديدة لحنية، وأدائية، متأثرة بالبوب ميوزيك الذي لا بد أن شاويش وقف عليه، وتأثر به حيث يتحرك صوته بحرية مطلقة ليضيف جملة لم يشملها من قبل.. عموماً شاويش له مقدرة واسعة في إجادة أسلوب الارتجال، والتنويع، والتطريب، وهذا أمر مهم في الحداثة الغنائية الراهنة، ولا ننسى أنه تأثر أيضاً بأسلوب الطمبرة بالحلق في أدائه يتلاعب، ويبرهن، أنه واثق من مقدرته، وكان بارعاً في اختيار النصوص..شاويش فنان ما وجد حقه المستحق، ومن ناحية لم يكن مهتما بمضاعفة إنتاجه، وكذلك الاهتمام بالورش، لكنه على كل حال يمتلك قدرات إبداعية كبيرة وخاصة”. هكذا ختم د. الماحي.
-٢-
على صعيد كلمات غنائه كان الشاعر محمد نجيب محمد علي قد خلق معه ثنائية مثمرة تمثلت في عدد من الأعمال، ولكن دعنا نسمع رواية محمد نجيب حول بدء العلاقة بينه وبين شاويش:
“حين تغنى بأغنية بتذكرك، والتي كتبتها تقريبا عام ١٩٧٤ لم يكن بيننا أي تعارف..ولم أكن قد استمعت له أصلاً..القصيدة كان قد نشرها أستاذنا الراحل محمود محمد مدنى فى مجلة الإذاعة والتلفزيون، وربما كانت من أول النصوص التي نشرت لي إذ إنني كنت حينها طالباً فى مدرسة محمد حسين الثانوية ..أذكر ذات أمسية من مطلع ثمانينات القرن الماضي، وأنا أجلس أمام جهاز التلفاز فجأة وقع سمعي على كلمات أغنية بتذكرك يتغني بها فنان من خلال التلفزيون..حقيقة أطربني اللحن، والأداء، وحرصت على معرفة اسم الفنان فعرفت من خلال الشاشة أن اسمه أحمد شاويش ..وفى اليوم التالى بدأت أسأل عنه..وكنت حينها أعمل مشرفاً على الملف الثقافي بمجلة الإذاعة والتلفزيون.. ومصادفة جاء أحمد شاويش للمجلة.. وكانت لحظة لقائي به .. وقلت له كيف تتغنى بكلماتي دون أن تستأذن مني. قال لي من أنت، وأي كلمات ..عرفته بنفسي وبالأغنية.. فقال إنه أخذها من المجلة، ونسي اسم الشاعر ..حتى إنه سجلها للإذاعة باسم اختاره من خياله لشخص غير موجود ..دون شك عاتبته حينها طويلاً، وبحكم أنه يعمل بالإذاعة ذهب، وقام بتغيير الاسم، وكنت أرافقه حينها.. وبالتأكيد لم أصرف استحقاقي عنها لأن الاسم غير الموجود قام بالمهمة نيابة عني .. وبدأت بيني وبين شاويش صداقة العمر”.
بتذكرك شكلت فاتحة التعاون بين محمد نجيب وشاويش، ومن بعدها تغني له بأغنية تعالي معاي .. ومن غرائب الصدف أيضا أن هذه الأغنية كتبت عن تجربة عاطفية اكتشف الشاعر لاحقاً أنها كانت قريبة أحمد شاويش. وتغنى لي أيضا بأغنية عن الربيع العربي بعنوان “هم قادمون” وشارك محمد نجيب الإذاعة فى مهرجان الأغنية العربية بتونس، وأحرزت المركز الأول وهي من ألحان مبارك محمد علي”
وأحمد شاويش فنان مبدع متفرد يغني ليطرب نفسه قبل الآخرين، ويخلص لمشروعه الإبداعي، وهو لم يسع لشهرة، أو تكسب من الغناء، كما يقول محمد نجيب ويضيف: “هل تصدق أنه للآن لم يقم بتسجيل شريط كاسيت واحد له فى الوقت الذى كان ذلك متاحاً، وكان كل الفنانين قد تعددت شرائطهم، وقد طلبت منه أنا ذلك كم مرة، ولكنه لم يكن ليعطي الأمر أهمية..وأحمد شاويش إنسان وفى أعماقه طفل مبدع ..وكله براءة وصدق ..أذكر فى زواج أخي الصحفي الراحل هاشم كرار أن كان قد تواصل معي هاشم أن أسعى لإحضار أحمد شاويش للغناء فى عرسه خاصة وأنه يتغنى بكلماتي ..وحين طلبت من أحمد ذلك لم يتأخر لحظة ..حمل عوده وتحركنا بالباص فى ذات اليوم ..وكانت سهرة بالعود فقط لا أظن أن أهل الحصاحيصا ينسون ذلك اليوم، وفي هذا الحفل تغنى لأول مرة بأغنيتي تعالي معاي ..والتى يقول مطلعها:
تعالي معاي عشان نرسم خريطة جديدة للأيام
يكون فيها الفرح شارع وتبقى العاصمة الأحلام
ونرفع لافتات الشوق
ونهتف ونمشى لى قدام
يعيش نبض الهوى وتحيا عيونك لي نور وسلام ..
ويقول الصحافي والناقد محمد نجيب: “كان شاويش حين يتغني بها يقول نبنى خريطة جديدة للسودان ..وظل شاويش يقول لى دائما إننا غنينا لثورة ديسمبر قبل قيامها .. ولشاويش إسهامات كبيرة فى مجال الدراما وشعارات المسلسلات، ويبقى فناناً متفرداً ومتميزاً، وصاحب لونية، ومدرسة خاصة فى مجال الغناء ..نسيت أن أقول أن أغنية بتذكرك استغرق تلحينها تقريباً تسع سنوات كاملة لتخرج للناس بعدها، وهذا بعض من سر خلودها”.
-٣-
تعاون الفنان القدير مع الراحلة ليلى المغربي عبر “أنا ما جاييك شايل افراح تملا الدنيا” أو العمق العاشر. وهو يقرض الشعر منذ صباه فكتب لنفسه “عطر الصندل” و”عادي جدا” و”لما الامير ظل ووقف”. كما تعاون مع الشاعر محمد أحمد سوركتي عبر عدد من الأعمال، وهناك شعراء آخرون.
أحمد عثمان أحمد شاويش، تتحدر جذوره من مروي، ولكنه من مواليد عطبرة التي درس فيها المرحلة الثانوية ثم انضم إلى دفعات معهد الموسيقى والمسرح الأولى، دارساً للدراما شأنه شأن زميله عبد العزيز العميري الذي رغم كونه مغنياً سوى أنه فضل دراسة المسرح. هناك في عطبرة كانت بدايته في النشاط المدرسي حيث يلحن الاناشيد ويغني لأصحابه. وكانت أولى اعماله “كتاب الريد” للشاعر أبو القاسم الحاج. بعد تخرجه في المعهد عمل شاويش مخرجاً بالإذاعة السودانية، وساهم من خلال وجوده في الإذاعة في تقديم عدد من مقدمات الأعمال الدرامية، وأبرزها مساهمته المميزة في “البيت الكبير” ومسلسلي “بيوت من نار” و”نهر السراب”.
هذه كلمات عجلى في حق فنان كبير شنف الآذان بإبداعه الغنائي، وكذلك الإذاعي، والدرامي، وبرهن علاقة مميزة مع العود، وظل حريصا أن يكون مجوداً لما يقدم، مراهنا على الكيف، وليس الكم. فشاويش يملك رؤية للعمل الغنائي صارمة تقوم على ضرورة الإضافة لا مسايرة السائد، أو الوقوف دون الإتيان بكلمات، وموتيفات غنائية مكرورة في بنائيتها. والأمل أن تأتي حلقتنا الثانية عن شاويش أكثر تفصيلا لهذه التجربة مع شعراء آخرين تعاون معهم، ودعموا غنائيته التي سقاها بكثير من الصبر، والإتقان، والمثابرة.