ماذا خسر العالم بموت اليسار؟ رثاء نقابة المبدعين الوطنيين
“الحقيقة لا تنمو جيداً إلا على التربة المروية بمطر دمائنا الغزيرة، بينما تذهب دماؤهم الفاسدة سدى.”
(مكسيم غوركي، رواية الأم)
لم يندمل جرحنا ولم ببرأ سقم أنفسنا من الأسى الذي خلفه موت محمد طه القدال حتى فجعنا بموت كمال الجزولي ومن قبله هاشم كرار. يظل النبل الإنساني والأصالة السودانية والوطنية هما العقد الناظم بين هؤلاء النفر الكرام وإن تمايزوا في العطاء وتباينوا في مضمار الوفاء. وأنا استعرض سيرة هؤلاء الافذاذ أحس بحُزن شخصي على فقدهم وأتأمل حجم الخسارة التي مُنى بها الوطن لرحيلهم في هذه اللحظة التاريخية الحرجة، فالوطن أحوج ما يكون للمفكرين والمبدعين خاصة في لحظات الضياع المعنوي والشتات الحسي. ذلك أنهم يعطون معنى للصمود ويشحذون همة الوطنيين للمثابرة كما يدعمون حجة المرافعة في وجه الطغيان.
عزاؤنا، أنهم وإن غيّبهم الموت، فستظل أصداء موسيقاهم تشنف أسماعنا عند ترداد النشيد الوطني. فها هو الشعب الفلسطيني البطل يستدعي أشعار درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، وفكر إدوارد سعيد وعزمي بشارة، وروايات وأقاصيص غسان كنفاني ورضوى عاشور، وهكذا هو حال المقاوميين الوطنيين في كل العهود وكل الأقطار: إنهم لا ينامون في قبورهم وإنّما ترفرف أرواحهم في عليائها يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم “ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون”. لقد وضعت حرب غزة اليسار العالمي والأوروبي خاصة في مأزق أخلاقي رهيب؛ إمّا مجاراة اليمين في صلفه وغلوائه التي تتطلب الوقوف مع إسرائيل دون تحفظ وبالتالي خسران اليسار الاتساق مع تاريخه ومبادئه أو اتخاذ موقف مبدئي من حرب الإبادة الحالية وخسران الانتخابات الأمريكية والأوروبية التي يلعب اللوبي الصهيوني فيها دوراً أساسياً وحاسماً. وهاهم اليهود يضعون البشرية في مفاصلة حرجة للمرة الثانية: إمّا خذلانهم والانتصار للقيم الإنسانية أو نصرتهم ووضع البشرية على حافة الانهيار المؤسسي والأخلاقي.
لقد ربطتني بثلاثتهم – كمال وهاشم والقدال – علاقة صداقة تعمّقت أوشاجها وقويت أواصرها بحكم القرب الروحي وإن تفاوتت مدتها وتباينت مواقفها. لقد صحبنى القدال إلى دار الرزيقات عام 2007 وهناك تغنى الناس بأشعاره في (مهرجان الضعين الثقافي)، استمتعوا برفقته في المنتديات كافة والأسواق، فتارة يلبي دعوة للشيوخ وتارة يصحب الشباب يستمع لرؤاهم ويأنس لمناشدتهم إياه كي يرسل أشعاره التي تدعو للمحبة والسلام. أمّا هاشم، فما زلت أفاخر بأنه “ود حجتي”. فقد رأيت عند النفرة من عرفة – في إحدى السنين – رجلاً أشعث أغبر، فقلت في نفسي هذا لو أقسم على الله لأبره، لحقت به فإذا به هاشم كرار! رجعت إلى الدوحة وسألت عن سيرته التي ربما منحته القربى مع كونه نبيلاً وأميناً، فقال لي أحد ندمائه المقربين أنه كان باراً بوالدته. من كان باراً بوالدته حريُّ به أن يكون باراً بوطنة وندياً في معشره. ألا رحم الله هاشماً وأسكنه فسيح الجنات.
أما ثالث الثلاثة المتبتلين في محراب الوطن فهو كمال الجزولي والذي حرصت على التعرف عليه عند رجوعي من الولايات المتحدة عام 2005. بادرت بإهدائه كتاباً عن العولمة والإرهاب (Thinking Past Terror: Islamism and Critical Theory on the Left) لإحدى الكاتبات اليساريات الأمريكيات (Susan Buck-Morss )، إذ لفتني الشبه في الأسلوب في الكتابة بينها وبين المرحوم كمال. استأذنت عليه في منزله في الهجرة أول يوم فاستقبلني ببشاشة وبساطة جعلتني آلفه منذ اللحظة الأولى، ومن حينها كنت أتفقده وأتعهده بالزيارة في البيت أو المكتب أو السؤال عبر الوسائط كلما حضرت إلى الخرطوم. كان كثيراً ما يناصحني ويحثني على المثابرة والمواظبة في الكتابة. كانت أول وصاياه لي عندما توثقت صداقتنا – وقد لاحظ كثرة الهجوم عليّ من جهات مختلفة ولأسباب متباينة – هي الثبات على المبدأ وعدم التلجلج أو التأثر بالانتقاد الذي قد يوجهه بعض السودانيين جزافاً أو تعمّداً كي يحيد الكاتب عن موقفه فيكون حينها مدعاة للسخرية أو الشماتة. وقال لي بالنص “هم يكرهون الرجل القوي لكنهم يحترمونه”. اكتشفت لاحقاً أنهم يكرهون الحجة القوية لأنها تكشف ضعفهم ويحترمونها لأنها الحيلة التي تجمع شملهم.
يجب أن أبين الفرق بين كمال وأبناء جيله، أمثال عبدالله على إبراهيم وحيدر إبراهيم، كمال مربٍ حصيف وأولئك معلمين جيدين. والفرق واضح. كمال يتعهد أصدقاءه بالنقد العلمي والموضوعي ويناقش أفكارهم ويرشد توجهاتهم حتى تتلائم مع مواهبهم ومقدراتهم. كمال لا يعمل بمفرده إذ النقابة هي ساحة تبتله، كمال لا يسعى للترويج لذاته – مقارنة بالكثيرين من أبناء جيله من النابهين – إنما ينقب عن الملكات في الجيل الذي يليه، إذ هو كثير البحث عن حملة الراية ولا يحفل بأبواق الدعاية، بل يحتقرهم. صحيح أنه معتد بنفسه وفيه حدة في الطبع ربما زادت مع السجون والأمراض والكرب الذي أصاب الوطن، لكنك متى ما تجاوزت هذه الهالة تعرفت على حالة أشبه بأحوال المتصوفة في الرقة والذوق والرهافة والدعابة والصرامة مع الأدب الجم.
هنا تستوقفني ظاهرة مهمة وهي أن كثير ممن ينتمون إلى الإسلام بعمقه الفلسفي والفكري، مثل اليساريين السودانيين، قد يهملون الشعائر التعبدية، وكثيراً ممن يتشدقون بالإسلام بمعناه العبادي يهملون المعاملات التي هي محور التوحيد ومناط التكليف الرسالي المحمّدي. (المعاملات لها مردود جماعي أما العبادات فمردودها فردي، الأولى لا تسقط الأخرى أمّا الأخرى فتظل ناقصة حال اكتفائها بذاتها). لن تكتب للسودانيين النهضة حتى يعالجوا هذا الفصام تربوياً وتعليمياً وإعلامياً. لقد عَنى اليسار بدور الدولة في تحقيق الاشتراكية التي هي أخت التكافل، كما عنى اليمين – الصوفي خاصة – بدور الفرد والجماعة في تحقيق التكافل. جاء اليمين الأيديولوجي متبجحاً ومتوشحاً بالهتاف الديني لكنه أهمل دور الدولة والمجتمع في تحقيق التكافل، بل غذّى روح الفردانية إذ إتبع النظام الرأسمالي دون أن يُعنى بنقده أو يحفل بتفكيك منظوماته التآمرية التي تتبع نجهاً قديماً في استرقاق الشعوب وتُمْعِن في استتباعها لحركة رأس المال العالمي، أو ما يسمى زوراً وبهتاناً العولمة.
لقد خسر العالم بموت اليسار منظومة قيمية إنسانية كانت تسعى لتحرير الشعوب من ربقة العبودية، ومن قبضة اليمين الذي كان حليفاً لنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا حتى أخر لحظة، وسيظل حليفاً للصهيونية حتى يلفظ آخر جندي إسرائيلي أنفاسه في فلسطين الحرة الأبية.
لقد ظل اليمين الإسلامي حتى زمنٍ قريب متحالفاً مع الامبريالية العالمية، ممّا ساعده على دحر اليسار سياسياً وعسكرياً – الذي لم يخلو من حماقات عجلت بوفاته – ومن ثم أعانه على وأد حركة التنوير في العالمين العربي والإفريقي. بالرغم عن ذلك فقد ظل اليسار مهيمناً على حركة الإبداع بكافة أشكاله فيما ظل اليمين مستعيناً بالغيبيات ومطمئناً لمسلماتها، وأحياناً ما يسعى لتقديم بعض النماذج الباهتة والتجارب الخجولة مثل فرقة نمارق في سودان الإنقاذ، التي سرعان ما خفض بريقها وانحسر، إذ لم تستطع أن تخاطب الوجدان الشعبي المفعم بأغاني وردي وأبو عركي البخيت ومصطفى سيد أحمد، إيقاعات عقد الجلاد، أشعار محجوب شريف وعالم عباس ومحمد حسن حميد، فكر محمد عبدالحي والنور عثمان أبّكر ومحمد أبو القاسم حاج حمد وعبدالسلام نورالدين، فنون الصلحي ومدائح البرعي (رضى)، إلى آخره من المبدعين الذين أثروا الوجدان السوداني وعمّقوا في أنفسنا حب الله، الفضيلة والوطن.
لقد تأثر اليسار السوداني بتقلبات الدهر وانحط حتى رأينا بعضاً من رموزه الذين وسِموا بأنهم “قادة المجتمع المدني السوداني” في أديس أبابا (أكتوبر 2023) متحالفين مع النيوليبرالية والصهيونية العالمية ومتخلين عن قيم الأولين في النزاهة والوطنية والعزم على مناهضة الامبرالية العالمية مهما كلف الامر، دعك عن السماح لها بالدخول والتمدد في ربوع البلاد بكل اريحية واطمئنان. جاءت (قحت) وحمدوك محمولتان إثر ثورة ديسمبر المجيدة على أكتاف الفقراء فإذا بهما يتحالفان مع الرأسمالية النهبوية ويطلان على الشعب بوصفة اقتصادية أقل ما يقال عنها أنها لم تراع الظرف السياسي، الاقتصادي، والاجتماعي. لقد جاءت الحرب إذن نتيجة الاستهتار والاخفاق في إدارة الدولة ممّا حدى بالعسكريين لاستلام الحكم متعللين بعجز المدنيين – وقد كانت هذه حقيقة – إلا إنهم استخدموها ذريعة لتكريس سلطتهم والاستعانة بحلفائهم القدامى، مما ساعد في تأجيج الحرب وأدى إلى استعار أوارها. وها هي ذات المجموعة العاجزة تطل علينا من جديد دون وجل أو خجل يساعدهم في ذلك اليمين الطائفي المتهافت الذي لا يحمل فكراً أو وعياً، إنما حرصاً للحفاظ على منجزات تاريخية واهية ومكتسبات حزبية بالية.
كانت فكرة الكونفدرالية – كونفدرالية المجتمع المدني – فكرة رائدة قدمها المرحوم الأستاذ/ كمال الجزولي وأشرف على التخطيط لها المرحوم الأستاذ/ أمين مكي مدني لكنها نفذت بطريقة خاطئة جعلت الغلبة فيها للجمعيات المدينية الوسط خرطومية التي يعتمد أعضاؤها سبلاً غير ديمقراطية في إدارة شأنها الخاص كما تتبع حيلاً تعسفية في إدارة الشأن العام. فهل سيقبل الريف بعد انتفاضته الأخيرة (إنقلاب/تمرد) وصاية ذات المجموعة التي قادها حمدوك في الفترة الانتقالية ورجوعها خِلسة من النافذة بعد أن طردها “الجيل الراكب راس” عُنوة من الباب؟
دبّ خلافُ بين أفراد المجموعة المنتقاة بحذقة وحذر حول رئاسة حمدوك إذ رأى بعضهم أنه يمثل عبئاً ثقيلاً على (قحت) فيما نسوا أن الأخيرة تمثل عبئاً أثقل على السودان. كلاهما – كما اللجنة الأمنية – يجب أن تطوله المساءلة عقب الفراغ من هذه المرحلة. فهم مثلهم مثل “الفلول” قد وفروا الوقود المعنوي لحرب راح ضحيتها الفقراء من أبناء الريف السوداني، الريف الغربي خاصة. فيما يطمح أمراء العقيدة والحرب والمال للاستيلاء على ما بقي من ثروات وقد لا يكلفوا أنفسهم تشييد مجرد صرٍح يحمل أسماء هؤلاء الجنود المستنفرين من الجيش والدعم السريع كما تفعل الحكومات في الغرب. اليس هذا هو تاريخ الحروب في العالم؟
ختاماً، وإذ برع يسار الستينيات متأثراً بالظرف الإقليمي والعالمي، فقد تقهقر يسار الألفية متأثراً بالتقلبات السياسية والاقتصادية وانزوى مؤثراً السلامة، ومقدماً المنفعة الشخصية على المنفعة الجماعية. وإذ تأخر يمين الثمانينيات بعد أن قيد العقل بالوجدان (إلا من بعض النماذج مثل الترابي والمحبوب عبدالسلام والطيب زين العابدين)، فقد انعتق جيل الألفية، مثل القاسم الظافر، هشام أحمد شمس الدين والشاعر محمد عبد الباري، إذ ايقن أن النموذج الأمثل لم يتم إنجازه بعد وأن سماته تلك تصعد إلى السماء بشوائبها ولا تُجتذب إلى الأرض بنقائها إذ ليس بمقدورها تحمل كمالات النموذج الإلهي.
وإذا كانت الثقافة هي عماد النهضة في المجتمعات الانسانية فإن الانظمة الأيديولوجية قد عولت على الأدلجة كوسيلة لتنظيم المجتمعات في الشرق المنكوب. لقد مكثت الإنقاذ ثلاثون عاماً برعت فيها في خنق الفضاء العمومي حتى مات الابداع إذ هاجرت الذوات المبدعة ولجأت تلك القاصرة إلى تبني الفكر الأحادي مضحية بفرديتها وممنية نفسها بأنشودة الخلاص الأخروي. ما السبيل لاستنهاض همّة الوسط وقد هجره المثقفون من ذات اليمين وذات اليسار؟ هل لبقائهما أثر وما هي الوسيلة لإحداث تواصل حيوي بين المجموعتين لا سيما أن التجارب قد برهنت بأنّ المعارك الصفرية لا تعود على المجتمعات الانسانية بنتائج إيجابية سواء على المستوي السياسي أو ذاك الفكري؟
لقد تجاوزت الثورة الأطر التقليدية للتفكير ولزم علينا تجاوز هذه الثنائيات (يسار ويمين) والسعي لاستيعاب روح المبادرة الوثّابة التي تبديها الأجيال الصاعدة، تلك الماهرة التي دكّت حصون الطواغيت وكادت أن تجلي جيوشهم لولا تآمر القوى الإقليمية والدولية. يجب أن نُبْقِي على جذوة الثورة متقدة رغم الخيبات والاخفاقات فهناك جيل من الشباب برهن أنه قادرٌ على الصمود، فهؤلاء كما يقول المناضل الثوري برير إسماعيل (جعيبات) لا يقبلون الهزيمة باسم “الواقعية السياسية” ويرفضون وجود اللجنة الأمنية في المعادلة الحكمية القادمة. فمن كان مؤججاً للحرب لا يمكن أن يكون نبراساً للسلام والتنمية والاستقرار.