عن منبر جدة الأخير: السعيد الذي تخدمه قحت (2-2)
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
لا تجتمع دوائر قوى “الحرية والتغيير” (قحت) في مثل اجتماعها على أن الإسلاميين من أنصار “نظام الإنقاذ” المباد “الكيزان” هم من أشعل الحرب الدائرة بإرادة الجيش أو بغيرها.
وكان لقاء المفاوضات الأخير في منبر جدة سانحتهم للثأر من الكيزان بالقرار الصادر عنه باعتقال المحرضين على الحرب الكيزان، ضمن مطلوبات إجراءات بناء الثقة بين أطراف النزاع. كما رحبت قحت، متى جعلت الجيش ذيلاً كيزانياً، بقرارات من المنبر صبت في صالح قوات الدعم السريع. فليس هناك ما لا تغفره قحت للدعم السريع طالما كان الفلول هم خصمهم المشترك.
فحصل “الدعم السريع” على مكسب صامت من “اتفاق جدة” الأخير لا ينطلي على أحد متى وقف على ملابساته. فتقرر في جدة احتجاز الهاربين من بين المحكوم عليهم بالسجن بعد خروجهم الجماعي منه بعد أيام قلائل من الحرب في 15 أبريل (نيسان) الماضي. وتبادلت كل من الحكومة السودانية و”الدعم السريع” الاتهامات عمن كان وراء ذلك الفرار الجماعي. ولكن رواية إدارة السجون عن ذلك الخروج تحدثت يومها عن فشلها في توفير أسباب العيش لهم في السجن بعدما قطعت الحرب خطوط التموين. أما مكسب “الدعم السريع” من قرار جدة بإعادة اعتقال من سمتهم “الهاربين من السجون”، فعظيم، فقد ظلت “الدعم السريع” تنسب كل تهمة توجه إليها باحتلال البيوت ونهبها إلى أولئك الهاربين من السجن. ولدفع التهمة عن نفسها ورميها على غيرها رتبت قوات “الدعم السريع” حملة علاقات عامة أشاعت بها فيديوهات تظهر ضباطاً من صفوفها يلقون القبض على لصوص منسوبين إلى المجرمين الهاربين. وعرضوا المسروقات التي صادروها منهم على الناس تبرئة لذمتهم.
ولم يقرأ الصحفي السوداني محمد لطيف كسب الدعم السريع من قرار منبر جدة برد المجرمين الهاربين إلى السجن إذا لم يراه حقاً لها علينا. فقال بشأن إعادة حبس الهاربين من السجون إنه قد لا يكون له أسبقية في قضية السلام، ولكن تظهر أهميته، وهنا بيت القصيد، إذا أخذت في الاعتبار ادعاء “الدعم السريع” أن الذين يمارسون الترويع باسمها مجرمون هاربون من السجون تم توظيفهم لتلطيخ سمعتها. وأضاف لطيف أن “القرار وفر فرصة ذهبية لتبذل كل الأطراف أقصى جهد لإعادة هؤلاء الهاربين إلى السجون لنرى إن توقف النهب أم استمر”.
وهذا ما يعرف في الإنجليزية بالفرصة التي تتاح للمشتبه فيه أن ينتفع من الشك في قيامه بما اتهم به. ومن الصعب بالطبع القول بأن احتلال البيوت ونهب موجودات الناس مجرد تهمة تحوم حول الدعم السريع علينا نسهر جميعاً، بقرار من مؤتمر لمفاوضات سلام، على إثباتها، أو طلع الدعم براءة. Case closed.
وساقت حرب “قحت” و”الكيزان” إلى ما هو أفدح. فراح مطلب في خطر إخلاء “الدعم السريع” لمنازل المدنيين، الذي سبق لمفاوضات جدة أن أمنت عليه بصورة أو أخرى في مايو (أيار) الماضي، بين أقدام هذا الخلاف. وصار “الكيزان”، الذين طالبوا بتفعيله قبل الجلوس إلى جولة أخرى في جدة، من فاقدي الرشد عند القحاتة. فقال الصحافي محمد لطيف “إن (الكيزان)، لأنهم رافضون أي اتفاق ومحرضون على الحرب، سيزايدون على عودة الناس إلى بيوتهم” في حين يعرف أي مواطن عاقل أن هذا المطلب مما صح بحثه في المفاوضات، لا قبلها، مشدداً على الحاجة إلى التفكير العاقل فيه تفكيراً “تتملك فيه أعصابك” بلا ردود فعل.
أما النور حمد فرأى مثل لطيف في مطلب خروج الدعم السريع من بيوت الناس شطط في التفكير، بل والاستحالة. فقال إن احتلال الجنجويد بيوت الناس أخرج الناس من طورهم فركبتهم العاطفة في حين صح أن يركبهم العقل. فمثل ذلك الاحتلال مما يتوقعه المرء في حرب لأن “الحرب لا تدار بأخلاق”. ولذا يعمل أهل الحكمة ألا تندلع حرب. ومتى اندلعت اندلقت شرورها:
“فلما يطلعوك من بيتك وينهبوه ويغتصبوا أختك whatever واللا كده بتفقد القدرة على الرؤية المتوازنة”. فالكوارث تحدث “والزول ما يخلي عاطفته تملي عليه خياراته، لكن النضج في ألا تصادر العاطفة خياراتك، وتكون عاوز تقاتل مما يؤدي إلى أن تفقد كل شيء”.
وسخر النور من القائلين بوجوب خروج “الدعم السريع” من بيوت المدنيين بقوله:
“يقولوا ليك (الدعم السريع) يطلع من البيوت. هو احتلها يطلع ليك كيف؟ ما بيطلع إلا بتفاوض. ما بيطلع ليك. في زول احتله ليهو محل في معركة طلع منها ساكت لأنك انت قلت له اطلع. بيطلع لما انت تكون عندك قوة تطلعو. تخليه يطلع. وعملياً أنت ما عندك هذه القوة”. وهكذا صارت جريمة حرب في وقاحة طرد المدنيين من بيوتهم كرة في ملعب “قحت” و”الكيزان”. ولا شماتة.
لهذه الحرب المدنية من حول الحرب في الميدان العسكري مغبة من جهة “قحت” خاصة، والتزامها بوقف الحرب. ففي شعواء خصومتها لـ”الكيزان” سقط الجيش بالكلية كطرف في الحرب من حساباتها. فهو فيها بالوكالة عن “الكيزان”، لا أصالة. وبالنتيجة أعفت “قحت” نفسها من التفكير في مآلاته في الحرب وما قبلها وما بعدها باستقلال عن ثأرهم مع “الكيزان”. وصار الجيش عندها لا شيء وموضوعاً سخريا.
ووقعت للدعم السريع من ثقوب حرب قحت والكيزان كسب عظيم من قرارات منبر جدة الأخير ما طرأ له. فكسب من قرار المنبر بضبط المحرضين على الحرب (تقرأ “الكيزان”). وكانت “الدعم السريع” قد غلبت حتى “قحت” في إذاعة أن الحرب حرب “الكيزان” وتكرار الدعوة لـ”أحرار الجيش” أن ينفضوا يدهم عنهم.
كما كسب الدعم من حيث احتسب ربما من قرار إعادة اعتقال الهاربين من السجون لأنه يصب في سياق مساعيه الحثيثة لرفع ثقل تهمة النهب والتغنيم التي لاحقته كاللعنة. وظل يصرف العاهة كمجرد كيد لا واقع.
كما كسب من سقوط مطلب خروج “الدعم السريع” من بيوت الناس ومقار الخدمات من أجندة منبر جدة. فبينما رأى “الكيزان” وجوبه صرفته “قحت” كذريعة كيزانية لتصعيد الحرب وتمديد أجلها، أو كحالة عاطفية أعشت المصاب بها دون التفكير الرشيد.
ويسأل المرء متى ستفيق “قحت” إلى أن حربها البسوس مع “الكيزان” رجّحت، أرادت أو لم ترد، كفة “الدعم السريع” على مائدة المفاوضات. وأهم من ذلك كله صح أن تسأل “قحت” نفسها إن كانت هذه الحرب هي حرب بين الجيش و”الدعم السريع” مصيرها تنتهي بصورة أو أخرى، أم أنها حرب بينهما و”الكيزان” لا يعرف أحد إن كان سيطول مداها.