جنوب السُّودان.. ماضيه وصيرورته (3 من 21)
كتب: د. عمر مصطفى شركيان
.
في أمر قبيل من قبائل جنوب السُّودان قرأنا أمراً عجباً! ما الذي يكون ذاك الأمر، وفيم يكون أمر العجب قولاً واستطراداً؟ في مجلة “العربي” الصادرة في نيسان (أبريل) 1971م قرأنا تقريراً مصوَّراً من استطلاع محمد طنطاوي وتصوير عبد الناصر شقره عن مديريَّة أعالي النيل، وكان أكثر ما شدَّ انتباهنا، وحرَّك مشاعرنا، ما أورده المستطلع الزعيم طنطاوي عن أصل قبيل الدينكا في جنوب السُّودان، أو فرع منه. إذاً، ماذا كتبه تقريراً وتصويراً عن هذا الشعب مما أثار دهشتنا؟ كتب الطنطاوي زعيماً أنَّ “الدينكا أصلهم من قبائل الجعليين في الشمال، وتعتبر قبيلة الدينكا من أكثر القبائل عدداً في جنوب السُّودان، وقد تكون أكبر القبائل في السُّودان كله، ويبلغ عددهم أكثر من مليون نسمة، وهم يسكنون أغلب أنحاء مديريَّة بحر الغزال، وأنحاء أخرى من مديريَّة أعالي النيل. ويمتد أصل هذه القبيلة إلى أماكن عديدة، فهم جاءوا من شمال وشرق وجنوب السُّودان، وتجمَّعوا ليكوِّنوا قبيلة الدينكا.”
“أما الذين جاءوا من الشمال فهم يعودون بأصلهم إلى قبيلة الجعليين، ويقولون إنَّ جدَّهم شخص واحد كان يُدعى “العبَّاس”، ورُزِق بولدين أحدهما أحمر، والثاني أسود، وكبر الولدان، وكان العبَّاس يملك أبقاراً وبندقيَّة، فأعطى لابنه الأحمر بندقيَّة، وأعطى الأسود بعض البقر. وشعر الابن الأسود أنَّ أبقاره لا تجد الكلأ الكافي في الشمال، فنزح جنوباً حتى وصل إلى حدود مديريَّة أعالي النيل، وبقي في منطقة الرنك.. وأصبح جد الدينكا الشماليين. أما الدينكا الجنوبيُّون فقد أتوا من أوغندا.”
لعلَّ مثل هذه التقارير غير العلميَّة، والتي تفتقر إلى الأسانيد والمرجعيَّات تضرُّ بعقول الصغار، وتعبث بضمائر الكبار على حدٍّ سواء. تلك هي أساطير الأولين من الجعليين التي ضلَّت طريقها إلى من أخذ منه الكاتب المقرِّر هذه الفرية، كانئاً ما كان. أصل الجعليين العبَّاسي هو في حد ذاته أمر مريب، فكيف يصبح المريب في مكان ما حقيقة في مكان آخر! ربما كان هذا ما صدَّقه واقتبسه الأديب الراحل الطيِّب صالح، وهو الذي كان معروفاً وشغوفاً بالعروبة بشيء من التزمُّت شديد. حين التقى الأديب صالح بالدكتور جون قرنق في إحدى زيارات الأخير إلى لندن، حاول الأديب صالح مجادلاً أحد مرافقي الدكتور قرنق، وذكر له – فيما ذكر – أنَّ الدينكا ترجع أصولهم إلى الجعليين، وإلى جدهم العبَّاس في المملكة العربيَّة السعوديَّة. فما أن سمعه مرافق الدكتور قرنق حتى انتبذ به مكاناً قصيَّاً، وهمس في إحدى أذنيه مترجياً منه أن يصمت لئلا يسمعه الدكتور قرنق، ويطالب بنصف نفط المملكة العربيَّة السعوديَّة!
للمقال بقايا باقيات،،،