ملخص ورقة سياسات، ذوالنون سليمان، مركز تقدم للسياسات
تقديم:
سيطرت قوات الدعم السريع صباح الثلاثاء 19 ديسمبر على رئاسة اللواء الأول والفرقة الأولى مشاة بمدينة ود مدني، عاصمة ولاية الجزيرة، وأحكمت سيطرتها على باقي مدن الولاية. وأصدرت القوات المسلحة بيانا أكدت فيه انسحاب قواتها من ود مدني، وعن تشكيلها لجنة تحقيق لمعرفة الأسباب والملابسات التي أدت لانسحاب الفرقة من مواقعها وبقية المناطق العسكرية.
في التفاصيل :
-أصدر قائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو، قرارا بتكليف ابن المنطقة القائد أبو عاقلة محمد أحمد كيكل بمهام قيادة الفرقة بود مدني بولاية الجزيرة.
-ذكرت قوات الدعم السريع أنها سوف تترك أمر إدارة مدينة ود مدني وتسيير شؤون ولايتها لأعيان المدينة والولاية الذين ليس لهم علاقة بعناصر النظام القديم.
-أكدت قوات الدعم السريع التزامها ببناء دولة جديدة في السودان على مبادئ تأسيسية، أهمها بناء جيش قومي ومهني, وأنها لن ستكون الجيش البديل لجيش السودان.
– أكدت قوات الدعم السريع أنها لن تكون السلطة البديلة لحكومة الأمر الواقع التي انهارت كلياً في الخامس عشر من إبريل.
-طالبت قوات الدعم السريع المجتمع الدولي بالتعاطي مع التحولات الكبرى الحادثة في السودان بإيجابية، باعتبارها فرصة للتغيير وبناء دولة مدنية ديمقراطية حقيقية.
تحليل
تعتبر ود مدني عاصمة ولاية الجزيرة الوسطية، من أهم مدن السودان المشكلة لنسيجه الاجتماعي ووعيه الثقافي والوطني ، بحكم موقعها في وسط السودان، ووجود مشروع الجزيرة الذي يعتبر من أكبر المشاريع الزراعية بأفريقيا بأراضيها, واحتوائها علي شبكة نقل حديدي وبري جعلها همزة الوصل بين ولايات السودان , والمعبر الرئيسي لحركة الوارد والصادر عبر ميناء بورتسودان . وتعتبر مدخل للولايات الشرقية من ناحية الجنوب والغرب , مناطق نفوذ وسيطرة قوات الدعم السريع ,استيلاء قوات الدعم السريع عليها يمهد لانتقال الحرب لشرق السودان عبر ولاية القضارف المتاخمة لها، ويجعل من سقوط ولايات سنار والنيل الأزرق والنيل الأبيض مسألة وقت نتيجة لعزلتهم من الشرق والشمال بعد سقوط ولاية الجزيرة , إضافة لطبيعة التكوين السكاني لمناطق سنار وكوستي “عرب بدو” الأقرب ثقافيا لحواضن الدعم السريع , ولتواجد أعداد كبيرة من أبنائهم في الدعم السريع , أسوة بولاية النيل الأزرق التي ينتظم عدد من أبناءها في صفوف الدعم السريع بقيادة العمدة العبيد سليمان أبو شوتال , الزعيم الأهلي .
السقوط السريع للمواقع العسكرية في ولاية الجزيرة قياسا بحاميات الجيش وفرقه في المدن الأخرى ترك تساؤلات حول أسباب الانهيار المفاجئ لمنظومة الجيش الدفاعية في ولاية الجزيرة , والتي تعد العاصمة الحقيقية بعد خروج البرهان من الخرطوم وإقامته ببورتسودان , حيث أصبحت ود مدني الشريان الغذائي لبقية مدن السودان , وصارت مقر بديل لجهاز المخابرات وهيئة العمليات وكتيبة البراء بن مالك الجهادية , ومركز مالي ومصرفي . تحدثت بعض التقارير عن انسحاب الجيش من مدخل المدينة الرئيسي في جسر حنتوب نتيجة لعمل استخباراتي متقدم مما أدى لاجتياح المدينة , ويرجح اخرون أن الانسحاب مخطط قام به تيار الحل السياسي داخل قيادة الجيش لمحاصرة الإسلاميين الرافضين لمبادرة منظمة الإيقاد , يدعم هذا الافتراض الانقسام الحاد وسط قيادة الجيش وتباعد الشقة بين القائد العام البرهان ونائبه الكباشي من جهة , وياسر العطا الرجل الثالث في الجيش من جهة أخرى , وارتفاع الأصوات الشعبوية والإسلامية بضرورة إقالة البرهان بسبب فشله في إدارة المعركة و”خيانته” وفق منصاتهم الاعلامية ، والتّي بدأت تروج لانقلاب عسكري ضده . أيضا يطل عامل ضعّف حاميات الجيش عسكريا نتيجة لاستنزاف مقدراتها لأكثر من ثماني شهور في معارك الخرطوم، ومع تراجع الروح المعنوية للجنود والمستنفرين أمام طوفان الدعم السريع العسكري، كسيناريو قابل للتكرار في المدن والولايات الأخرى فيما يشبه بانهيار كامل للجيش بسبب طبيعته البنيوية “اعتماده علي الدعم السريع كقوات مشاة” ومشاكله الفنية “نقص العتاد والتسليح” ووحدة القيادة ” تدخل الاسلاميين في إدارة المعركة ” الأمر الذي جعل قادة المنطقة العسكرية يعقدون اتفاقا مع الدعم السريع بتسليم المنطقة من دون قتال , كرد فعل علي طريقة إدارة اللجنة الأمنية العليا للمعركة.
تمدد قوات الدعم السريع في الولايات الوسطية يساعدها في فتح جبهة قتالية جديدة في شرق السودان وذلك عبر الاستفادة من موقع ولاية الجزيرة الاستراتيجي “وسط السودان” الذي يربط بين الشرق والغرب في تحركات المقاتلين وخطوط الإمداد، أيضا كشفت معارك الجزيرة المحدودة عن مشاركة أعداد مقدرة من الحواضن الاجتماعية لشرق السودان، الأمر الذي يرشح لجعلها نواة لعمل عسكري في ولايتي القضارف وكسلا.
سيطرة الدعم السريع علي مدينة ود مدني فجر الخلاف بين قيادة الجيش والحركات المنحازة له ” حركتي مناوي و جبريل ” والتي أعلنت خروجها عن الحياد والمشاركة في كل المحاور القتالية ضد الدعم السريع ، وذلك بعد اصطدام القيادة السياسية للحركات برفض القيادة العسكرية للمشاركة في الحرب ، ودفعهم بقائمة مطالبات حول ضرورة تواجدهم في القيادة العليا للجيش وزيادة حصصهم في المواقع الدستورية , وتوفير الدعم اللوجستي , واعتماد قوائم رتب لقواتهم العسكرية , التوقعات تشير لتراجع مناوي عن قرار المشاركة وعودته لموقف الحياد , يدعم هذا الافتراض تواصله المعلن مع قيادة الدعم السريع واتساع هوة خلافه مع القيادات العسكرية حول المشاركة في الحرب , اما على صعيد حركة العدل والمساواة , تشير الوقائع لاستمرار تنسيقها العسكري مع الجيش وتحالفها السياسي مع عناصر ومكونات النظام السابق , ودعمها لأي تغيير في قيادة الجيش يتسق مع رؤى شركائها في الحرب .
انتصار الدعم السريع في ولاية الجزيرة أوضح الخلاف داخل القيادة العسكرية من خلال بيان القوات المسلحة حول تشكيل لجنة تحقيق حول انسحاب الجيش من ود مدني دون علمها , بالإضافة للتباين داخل قيادتها حول الموقف من دولتي الامارات وتشاد بعد اتهامات مساعد القائد العام الفريق أول ياسر عطا لهما بدعم قوات الدعم السريع وتوتر العلاقات الدبلوماسية بين البلدين , وتسليم هيئة العمليات الحربية لجهاز المخابرات العامة مع صلاحيات إدارية للمجاهدين في تشكيلاتهم الجهادية المتعددة ” البراء بن مالك والمستنفرين ” وتهميش لضباط والجنود المهنيين , هذه النقاط , في ظل توالي سقوط حاميات الجيش , قد تؤدي لبروز قيادة عسكرية جديدة , وبالتالي نظام سياسي , يتمحور حول الموقف من الحرب والحل السياسي , في صراع جديد بين جنرالات الجيش والإسلاميين .
إسلاميا، أتي رد فعل عناصر النظام القديم عبر الأمين العام للحركة الإسلامية علي كرتي، في بيان بث على شاكلة الظواهري للجيش ومؤيدي الحل العسكري، أكد فيه مشاركتهم ودعمهم للقوات المسلحة في الحرب، ومطالبا الجيش بتسليح المستنفرين وبالشفافية مع الشعب وتوضيح الحقائق له. يهدف كرتي من هذا الظهور الي تأكيد تواجد الإسلاميين في ساحة المعركة , ولمليء الفراغ السياسي جراء صمت القيادة التنفيذية والعسكرية علي أحداث الجزيرة ، وتثبيت عضويته وتخفيف وقع الصدمة عليها خوفاً من حدوث انهيارات متلاحقة تؤدي إلى الهزيمة وبالتالي تهدد وجود وفعالية مؤسسات الإسلام السياسي في السودان، التنظيمية والاقتصادية والعسكرية.
رسائل قوات الدعم السريع الإيجابية، والتزامه المعلن بالتحول المدني والانتقال السياسي، يأتي في سياق مخاوفه من تحميله مسؤولية التداعيات الإنسانية لسيطرة قواته على مدينة ود مدني، لأهميتها الخدمية والغذائية لعدد كبير من سكان السودان، والنازحين والمقيمين بها، بعد مطالبات بعدم توسيع نطاق الحرب من عدد من المنظمات، وفي ذات الوقت، تعتبر تمهيد لزيادة رقعة انتشاره في المنطقة لتشمل وسط السودان بأكمله، ولايات الجزيرة، والنيل الأبيض، والنيل الأزرق وسنار والشمالية.
تقييم ميدان الصراع ينبئ بعدم مقدرة قيادة الجيش علي استرداد مواقعه أو الدفاع والمحافظة على حامياته المستهدفة من قبل قوات الدعم السريع، الامر الذي قد يضعها أمام خيارات العودة لطاولة المفاوضات في منبري جدة والإيقاد، أو البحث عن حلول خارجية على حساب سيادة التراب السوداني، كانتقال جديد للأزمة في بعدها الإقليمي، وانتقالها من الصراع غير المباشر الى المواجهة المباشرة.
الخلاصة:
سيطرة قوات الدعم السريع على ولاية الجزيرة يعتبر تحولا كبيرا في خارطة الصراع السياسي والعسكري بين طرفي الصراع السوداني، ونقطة تحول ترجح من فرص الانتصار العسكري في حالة استمرار العمليات الحربية، وارتفاع سقفه التفاوضي في حال الحل السياسي، هذا , إذا لم تتدخل قوى خارجية مباشرة لتغيير موازين المعركة بين طرفي الصراع.
السابق بوست