محمود محمد طه… ونبوءة العرفانيين!

0 90

كتب: فتحي الضَّو

.

كنت قد دأبت على الكتابة الراتبة كلما هلَّت علينا ذكرى شهيد الفكر الإنساني الحر الأستاذ محمود محمد طه، وقد تواتر ذلك منذ أن ترجل كالطود الأشم وأعتلى منصة الإعدامات في سجن كوبر بأمدرمان، مُتكئاً على خُطاه الراكزة كجلمود صخرٍ يهُز الأرض من علٍ. تُزين وجهه تلك الابتسامة التي حيَّرت كل من رآها وعجز عن الوصول لغموضها الساحر، سواء من الأبعدين والأقربين، بل ما يزال الناس مذهولين جراء تلك الشجاعة النادرة، والتي واجه بها الموت مبتسماً. ولعمري ذلك موقف اسطوري جعله صنواً لآخرين مضوا في ذات الدرب من أمثال الوليد بن أحمد (ابن رشد) والحسين بن منصور (الحلاج) والجعد بن درهم وهموا كُثر!
(2)
في مثل هذا اليوم (18/1/2024/) أي قبل نحو ثمانية وثلاثين عاماً، أغتال الرئيس المخلوع جعفر نميري شهيد الفكر الإنساني الحُر الأستاذ محمود محمد طه، بعد محاكمة هزلية تبارى في ظلاماتها جلاوزة الهوس الديني، وأظهروا ما ضمرته نفوسهم الظلامية، في حين عمد الأستاذ محمود محمد طه إلى تعرية ترهاتهم وفضح جهلهم بمرافعة رصينة كان ينبغي أن تكتب بماء الذهب على صفحات التاريخ. ومع ذلك ظلَّ الناس يتداولونها على مر الأزمان كمنجز حضاري لا يمكن تجاهله. أما أنا محب الأستاذ لوجه الله، فقد أعجبني في هذه المرافعة الفكرية السياسية الفلسفية الدينية شيئين هامين: الأول تلك الشجاعة البالغة منقطعة النظير، أما الثاني فهو الثبات على المبدأ ولو كان مقابله الموت!
(3)
سيظل كل ذلك متوهجاً في ذاكرتنا وأفئدتنا نستلهم منه العبر والدروس الكثيرة التي تركها لنا الأستاذ المفكر وأهمها: الوقوف بصلابة في مواجهة الديكتاتوريات وخاصة المتسربلة بالدين الإسلامي، والثبات على المبدأ ومناهضة ظلم السلطان الجائر مهما كان الثمن. لقد افتدى الأستاذ أمته بتبصيرها بمآلات حكم الإسلام السياسي، وما ينجم عنه من دمار عقدي وأخلاقي سيكون وبالاً على الدين نفسه. لو كان الأستاذ المفكر جباناً لآثر الهروب بجلده ولو كان الأستاذ المفكر أنانياً لراوغ الديكتاتور كما يفعل سدنة دولة الفساد والاستبداد. ولو كان الأستاذ المفكر فظاً غليظ القلب لأنفض من حوله محبيه ومريديه، لكنه كان رؤوفاً رحيماً، أختار طريق المجادلة بالتي هي أحسن، ودفع حياته ثمناً لتضحيته!
(4)
نحن مدينون للأستاذ محمود محمد طه، فقد نصحنا في يوم عزَّ فيه النصح، ولم نستبن نصحه إلا ضحى الغد. بل لم نعلم أننا أضعنا شيئاً ثميناً إلا بعد أن تكالبت الضباع على الوطن الوديع وشرعت في نهش جسده الطاهر بلا وازع ولا ناهٍ يردع الأحياء وهي رميم. ثمَّ مضوا في مكايدات السوء ومخططات التآمر لأجل أن يشعلوها حرباً شعواء لا تبقي ولا تذر. ظلوا يأججون نيرانها ويقرعون طبولها ويحرصون كل الحرص على أن تمضي إلى نهاياتها التدميرية. طالما أن الوطن في عرفهم محض (بقرة حلوب) يرضعون ضرعها.. مُعرضين عن التذكرة كأنهم حُمر مستنفرة!
(5)
منذ أن أنشبت الحرب أظفارها الجارحة، عمد كثير من الناس إلى استدعاء مقولات نُسبت إلى الأستاذ المفكر، وهي في مجملها تشير إلى أن الفتنة الهوجاء التي أشعلها الإسلامويون سوف تكون وبالاً عليهم، وسيعود ناعقها إليهم وهو حسير. وقال المُبرأ من العيوب: سوف يتلجلجون ويختصمون ويفرون فتُصبح عندئذٍ ترهاتهم الظلامية هشيماً تذروه الرياح. ونحن نقول حينما قال الصادق الأمين ذلك لم يدَّع علم الغيب ولم يكن ضارباً بالرمل، وإنما كان ذلك تحليلاً واقعياً ومنطقياً غاص في دقائق الأشياء بنظرة عرفانية لا يُلقاها إلا الذين صبروا ولا يُلقاها إلا ذو حظٍ عظيم. ونقول كذلك إن حدسنا يعضد أيضاً قول من لا ينطق عن الهوى لأن الخالق – سبحانه وتعالى – هو القائل (ولا يحيقُ المكرُ السّيئ إلا بأهله).
(6)
لقد كان الأستاذ المفكر يعلم ما لا يعلم غيره أن الدرب الذي سار فيه شاق وطويل، تأسياً بالرسل والأنبياء، فمسيرة ما يناهز نصف قرن تؤكد زعمنا، بدأت بدخوله سجن المستعمر البريطاني، كأول سجين سياسي سوداني، ومضت المسيرة في طريق الآلام لتؤدي به إلى حبل المشنقة. كنت قد كتبت كثيراً وسنظل نكتب من أجل تخليده بذكرى تليق بمقامه السامي. الموسي أن الذكرى تأتي هذه المرة والوطن غارق في حرب البؤساء التي تنشر ظلالها السوداء على أرجاء الوطن كافة. وما يزال المبعثرون ينتشرون في فجاج الأرض بحثاً عن مأوى وطمعاً في الذي يمكن أن يقيم الأود، بينما نجد الإسلامويين قتلة الشهيد عاكفون على ضخ الأكاذيب وإشاعة الأباطيل، يحيكون الدسائس وينشرون الفتن، ولن يهدأ لهم بال إلا إذ أصبح هذا الوطن صعيداً جرزا.
(7)
سلام عليك يوم ولدت، وسلام عليك يوم مقتلك وسلام عليك يوم تبعث حياً. يومئذٍ سيجتمع في ملكوت الله الخصوم بين يدي مليك مُقتدر، سيقف ضحايا الهوس الديني صفاً صفاً يتقدمهم المبعوث فيهم، سوف يُطأطيء الظالمون والفاسدون والمستبدون رؤوسهم، يشكون الذين قتلوا والذين عذبوا والذي ادعوا الربوبية ولات ساعة منم. أما أنت يا سيدي ومولاى، لقد منحت هذا الوطن المكلوم هوية بعد أن ذاع صيتك كمفكر متفرد وملأت سيرتك الآفاق، وهنئاً لك ذلك الموقع الرحيب بين المفكرين الشجعان الذين كتبوا أسمائهم بأحرف من نور على صفحات التاريخ الإنساني الذي لا يظلم عنده أحد!!.
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والحرية والديمقراطية وإن طال السفر!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.