والبلد المحروم: حتى كورونا لم تشفع للسودان!
كتب خالد التيجاني النور:
(1)
تفضل الأخ الكريم الدكتور أدم الحريكة، المستشار الاقتصادي للسيد رئيس الوزراء، مشكوراً بالاتصال هاتفياً بكاتب هذه الزاوية بشأن مقال “مراجعة الحكومة للموازنة وسياساتها ليست ترفاً يمكن تفاديه” المنشور في العدد السابق الذي تناول مقاربة نقدية لتصريحات نقلتها عنه وكالة السودان للأنباء “سونا” أشار فيها إلى “إن الحكومة لن تتأثر بعدم انعقاد المؤتمر الاقتصادي الذي تم تأجيله بسبب جائحة “كرونا”، مضيفاً أن انشغال المؤتمر الاقتصادي المزمع لن يكون منصباً على الموازنة، بل سيناقش السياسات والتوجهات الكلية، وقال “إن الموازنة مجازة، ويمكن للحكومة الاستمرار فيها، مع استمرار الحوار مع قوى الحرية والتغيير، إلا ان ذلك لا يعني توقف تنفيذ الموازنة وتطبيق السياسات المصاحبة”، مشيراً إلى أن أمام الحكومة “خيارات متعددة لتنفيذ الموازنة المجازة”.
(2)
والدكتور الحريكة، الخبير الاقتصادي الذي انتدبته المفوضية الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة التي يشغل بها مدير إدارة الاقتصادي الكلي لمعاونة رئيس الحكومة الانتقالية مستشار اقتصادياً، يستحق التقدير لقبوله النهوض بهذه المهمة الكبيرة في هذا الوقت العصيب بكل تعقيداته، ويُحمد له تفاعله مع ما يُنشر في الصحف وانفتاحه للتعاون مع الإعلام، وهذه ميزة تفتقدها الصحافة، السلطة الرابعة المكملة لأركان مؤسسات أي نظام ديمقراطي، في دوائر الحكم الحالي حيث يجنح أغلب المسؤولين إلى النأي بأنفسهم عن التفاعل الإيجابي والحوار مع أهم أدوات صناعة الرأي العام، مفضلين صيغة المنولوج يكتفون بإطلاق التصريحات، أو عقد المؤتمرات الصحافية والتغافل عن ردود الفعل عليها، وقلت للدكتور الحريكة إن واحدة من أكبر نواقص الحكومة الانتقالية افتقارها لاستراتيجية للخطاب العام، وعدم استنادها إلى سياسة مدروسة للتواصل مع الرأي العام، وهي قضية أعمق وأبعد مدى من مجرد الإدلاء بتصريحات، أو إقامة مؤتمرات صحافية، بل تتعلق بتوفر رؤية كلية ووجهة معلومة ومضمون مدروس يعرف ماذا يقول، ولمن، وكيف، وأين ومتى. وأن الحديث المتكرر عند غالب المسؤولين عن الحوار المجتمعي لا يقف على ساق في غياب منهجية معلومة لإدارته ووسائل فعالة لقطف نتائجه.
(3)
أمّن مستشار رئيس الوزراء الاقتصادي في حديثنا على صدقية التصريحات المنقولة على لسانه، ولكنه أراد التأكيد على أن هناك لجنة حكومية تم تشكيلها تعكف بالفعل على دراسة تأثير جائحة كورونا على الاقتصاد السوداني وكيفية التعاطي معها، والمسألة الأخرى ذات الأهمية التي أشار إليها هي أن السودان ليس مؤهلاً للحصول على أي من حزم المساعدات المالية التي تم الإعلان عنها من قبل العديد من مؤسسات التمويل الدولية لمساعدة الدول النامية للتخفيف من آثار هذه الجائحة، بما في ذلك دعوتها لتخفيف أعباء الديون على البلدان الأشد فقراً، وذلك بسبب استمرار إدراج السودان في اللائحة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، وما يترتب عليها من عقوبات اقتصادية بما في ذلك حرمان السودان من تطبيع علاقاته مع مؤسسات التمويل الدولية أو الحصول منها على أية مساعدات. وقال د. الحريكة أن الحكومة على ضوء ذلك شرعت في اتصالات مباشرة ثنائية مع الشركاء الدوليين للحصول على مساعدات عاجلة بديلاً لانسداد الطريق أمامها من الاستفادة من هذه المبادرات بسبب العقوبات الأمريكية.
(4)
ولإلقاء إضاءة سريعة على حجم الضرر البالغ الواقع على البلاد جراء هذا الفيتو الأمريكي الذي يحرم السودان من الحصول على أي عون خارجي ذي بال حتى في ظل هذه الظروف الاستثنائية العصيبة جراء جائحة كورونا التي لم يسلم من غوائلها الاقتصاد العالمي أو اقتصاد أي بلد في العالم، أورد أدناه بعض هذه المبادرات الدولية التي استثني السودان من الاستفادة منها.
فقد تبنت مجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تخفيف أعباء ديون أشد البلدان فقراً المؤهلة للاقتراض من المؤسسة الدولية للتنمية، والسودان واحدة من هذه الدول، وطلبت من جميع الدائنين الثنائيين الرسميين العمل فوراً على تعليق سداد أقساط الديون المستحقة عليها، معتبرة أن ذلك سيساعد على تلبية احتياجات السيولة الفورية لتلك البلدان للتصدي للتحديات الناشئة عن تفشي فيروس كورونا.
وكذلك إتاحة الوقت اللازم لتقييم تأثير الأزمة والاحتياجات التمويلية لكل بلد منها، بما في ذلك تحديد البلدان التي تفتقر إلى القدرة على الاستمرار في تحمل أعباء الديون، وإعداد مقترح لعمل شامل من جانب الدائنين الثنائيين الرسميين لتلبية كل من الاحتياجات التمويلية والحاجة لتخفيف أعباء الديون لتلك البلدان. ومن المفترض أن يتم تبني هذا المقترح في لجنة التنمية خلال اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدولي منتصف الشهر الجاري بواشنطن.
(5)
وعلى صعيد ذي صلة أعلن البنك الدولي، الذي تتبع له مؤسسة التمويل الدولية، عن تخصيص مبلغ 150 مليار دولار، كحزمة مساعدات وتسهيلات للبلدان النامية في مواجهة فيروس كورونا، كما دعا البلدان الدائنة إلى تعليق سداد قروضها المستحقة على البلدان الأشد فقرا، لإتاحة المجال لها لمواجهة الجائحة، وضخ الأموال في اقتصاداتها.
وقال رئيس مجموعة البنك الدولي ديفيد مالباس “هذه أوقات عصيبة علينا جميعا، لا سيما البلدان الأشد فقرا وضعفا.. هدفنا الأول تقديم دعم فوري خلال الأزمة لتلبية احتياجات أي بلد”، وأضاف “نعكف على إعداد مشروعات في 49 بلدا من خلال برنامج جديد للتسهيلات السريعة الدفع، ومن المتوقع اتخاذ قرارات بشأن 16 برنامجا الأسبوع الجاري”.
(6)
أما وزراء المالية الأفارقة الذين اجتمعوا في 19 مارس الماضي في مؤتمر افتراضي نظمته المفوضية الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة، لتبادل الأفكار حول جهود حكوماتهم في التعامل مع الآثار الاجتماعية لجائحة كورونا فقد دعوا إلى رد فعل منسق للتخفيف على الاقتصادات والمجتمع، وقد أشاروا إلى أن أفريقيا، حتى قبل جائحة فايروس كورونا، كانت بالفعل تعاني من فجوة ضخمة في تمويل التدابير والبرامج الرامية إلى تحقيق أهداف التنمية المستدامة وغايات وأهداف أجندة 2063.
وأكدوا في توصياتهم احتياج أفريقيا إلى محفّز اقتصادي مستعجل وفوري في حدود 100 مليار دولار أمريكي، مشيرين إلى أن الإعفاء من جميع مدفوعات الفوائد، المقدرة بـ 44 مليار دولار أمريكي لعام 2020، وإمكانية تمديد الإعفاء إلى الأمد المتوسط، سيوفر مساحة مالية وسيولة فورية للحكومات، في جهودها للرد على جائحة فايروس كورونا. وشددوا على أنه ينبغي ألا يشمل الإعفاء من مدفوعات الفوائد مدفوعات الفائدة على الدين العام فحسب، بل أيضًا على السندات السيادية. وبالنسبة للدول الهشة، اتفق الوزراء على ضرورة النظر في إعفاء أصل القروض والفائدة وتشجيع استخدام التسهيلات الموجودة في البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وبنك التنمية الأفريقي، والمؤسسات الإقليمية الأخرى.
بالإضافة إلى ذلك، أكد الوزراء على ضرورة دعم القطاع الخاص وحماية أكثر من 30 مليون وظيفة معرضة للخطر، بما فيها الزراعة، والواردات والصادرات، والمواد الصيدلانية، والخدمات المصرفية، اتفق الوزراء على وجوب إلغاء جميع الفوائد والمدفوعات الرئيسية على ديون الشركات، والإيجارات، والتسهيلات الائتمانية الممتدة، وخطط إعادة التمويل، وتسهيلات الضمانات للتنازل وإعادة الهيكلة وتقديم المزيد من السيولة في عام 2020. كما يجب أيضًا توفير خط سيولة للقطاع الخاص لضمان استمرارية المشتريات الأساسية وتمكين جميع المقاولات الصغيرة والمتوسطة التي تعتمد على التجارة من أن تستمر في العمل.
(7)
أما مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) فقد وجه نداءً للحصول على حزمة إنقاذ تصل قيمتها إلى تريليونين ونصف تريليون دولار أميركي لتعزيز قدرة الدول النامية على الصمود في الضائقة الراهنة. وفي مواجهة ما وصف ب”تسونامي مالي يلوح في الأفق” هذا العام، تبنت (أونكتاد) استراتيجية ذات أربعة جوانب الأربعة من بينها ضخ استثمار بقيمة تريليون دولار في الاقتصادات الضعيفة، موضحة أن هذا سيأتي ضمن “حقوق السحب الخاصة” التي يحكمها صندوق النقد الدولي والتي ستحتاج إلى “تجاوز؛ إلى حد كبير” مخصصات عام 2009 استجابة للأزمة المالية العالمية. أما الإجراء الثاني فيتمثل في تجميد ديون الاقتصادات المنكوبة، الذي ينطوي على تجميد فوري لمدفوعات الديون السيادية، يليه تخفيف كبير للديون. وعلى سبيل المثال؛ تذكر «أونكتاد» كيف تم إلغاء نصف ديون ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. واستناداً إلى هذه السابقة، ينبغي إلغاء نحو تريليون دولار من الديون هذا العام، تحت إشراف هيئة تنشأ بشكل مستقل على أن تكون تابعة للأمم المتحدة.
(8)
لا يحتاج المرء إلى عرض المزيد من المبادرات الدولية والإقليمية العديدة المطروحة من مؤسسات معتبرة في شأن التصدي لتبعات تسونامي جائحة كورونا، لا سيما على البلدان الأشد فقراً، ولنا أن نتخيل أن السودان البلد الوحيد في العالم المصنف من الأمم المتحدة والبنك الدولي ضمن هذه الفئة” الذي سيكون محروماً بشكل تام من الاستفادة من أي من هذه المبادرات بسبب الفيتو الأمريكي جراء استمرار إدراج اسمه ضمن الدول الراعية للإرهاب بكل تبعاتها، في وقت لا يلوح في الأفق أية إرهاصات أن اسمه سيرفع من اللائحة في الوقت قريب، وهو ملف يزداد تعقيداً بعد أضيفت إليه المزيد من الشروط القاسية المعقدة ضمن بنود مشروع القانون المطروح في الكونغرس تحت عنوان (قانون الانتقال الديمقراطي في السودان والمحاسبة والشفافية لسنة 2020م)، الذي نرجو أن نتناوله بالتحليل في مقال قادم بإذن الله، ولكن الخلاصة التي يمكن الإشارة إليها في هذا المقام أن مسألة تطبيع علاقات السودان بمؤسسات التمويل الدولية للاستفادة من مبادرات التصدي لجائحة كورونا غير واردة في ظل استمرار السياسة الأمريكية الراهنة التي تعرقل فرصه بالمزيد من القيود القاسية.
(9)
والحال هكذا فما الحل، وما العمل؟ من الواضح أن الحكومة لا تملك استراتيجية سياسية ودبلوماسية لحلحلة العقدة الأمريكية، والأسوأ أنها وقعت ضحية لكمين نُصب لها بغير وعي ولا اعتبار من سابق التجارب الأمريكية مع السودان بالجري وراء وعود براقة للتطبيع لا تتحقق أبداً، فقد كان الظن أن تقسيم السودان سيكون ثمناً لذلك، وكانت النتيجة هذا الواقع المأساوي جراء الانهيار الاقتصادي، والآن يتم تضليل الحكومة بأن تسوية ودفع تعويضات ضحايا عمليات الإرهاب، ستفتح الطريق أمام رفع اسمه من اللائحة، وحتى لو افترضنا جدلاً أن ذلك صحيح فلا ينبغي إلا أن يكون ضمن حزمة متكاملة مؤكدة تقود إلى تحقيق ذلك، ولكن للأسف الشديد سارعت الحكومة إلى الشروع فعلاً في دفع أموال بعشرات الملايين من الدولارات في وقت تمس فيه حاجة البلاد إلى دولار واحد، ومع ذلك لن تجني لا سراباً بقيعة.
(10)
من المؤكد أن النهج الرسمي المعزول عن دور شعبي فاعل في مواجهة جائحة العقوبات الأمريكية ضد السودان لن يكون منتجاً بأي حال، ولذلك فإن هناك حاجة ماسة لتحرك شعبي واسع جداً يحمّل الولايات المتحدة الأمريكية مسؤولية إفشال الحكومة الانتقالية وتحقيق التحول المدني الديمقراطي في السودان، فالوعود المجانية التي لا تحقق ذلك في تصريحا المسؤولين الأمريكيين، وما يدعو له الكونغرس بقانون للانتقال الديمقراطي في السودان والمحاسبة والشفافية لا يعدو أن يكون مجرد طق حنك.
ولذلك يجب أن تنتظم حملات شعبية واسعة تمارس ضغوطاً سياسية وأدبية وأخلاقية على الولايات المتحدة لتحرير السودان من سعيها لإفشال ثورة ديسمبر المجيدة، وتحميلها أوزار النظام السابق، وها هي تعرقل حصول البلاد على أي مساعدات تستحقها من مبادرات دولية بسبب هذا الفيتو، وينبغي على جماعات الضغط التي تحركت سابقاً أن تتحمل مسؤوليتها اليوم في رفع الحيف والضيم عن الشعب السوداني.