مدرسة النضال السودانية في ذكرى ثورة رجب/ أبريل

0 83

كتب: الإمام الصادق المهدي 
المدخل:
بعض السودانيين يستخفون بالوطن، قال لي صديق مصري مداعباً: أنتم تحبون بعضكم لا الوطن، ونحن نحب الوطن لا بعضنا. ومهما صح من قوله فإن بيننا من لا يدرك عراقة السودان منذ كوش، ومركز الدعوة والثورة المهدية بين حركات التحرير في القرن التاسع عشر ومركزها في حركة الصحوة الإسلامية بعد عهود الركود، ولا يقدرون عبقرية تحقيق الاستقلال، ولا يدركون تفرد شعبنا في مقاومة الاستبداد بعزيمة لا تلين، ولا يقدرون حقيقة أن قوات بلادنا المسلحة بعد أن استغلتها قوى سياسية لأغراضها رفضت الانصياع للطغيان في الوقت المناسب وانحازت للشعب.
هذه لوحة عطاء ينطبق عليها قول المتنبئ:
إنْ أكُنْ مُعجَباً فعُجبُ عَجيبٍ لمْ يَجدْ فَوقَ نَفْسِهِ من مَزيدِ
ولكيلا نلقي القول على عواهنه أسجل فصول مدرسة النضال السودانية العشرة، وهي:

أولاً:
1. النضال ضد الامبريالية البريطانية التي حولت الحكم الثنائي اسماً إلى البريطاني فعلاً اتخذ طابعين: طابع الانحياز لمصر ومواقف دعاة الحركة الاتحادية بمراحلها المختلفة، وطابع دعوة السودان للسودانيين. تراشق الموقفان ولكن في الوقت المناسب رجح الانتماء الوطني الحركة الاستقلالية فحقق استقلالاً كامل الدسم بالوسائل السلمية، هذه من آيات الجهاد المدني.

2. الدرس المستفاد من تعثر التجربة الديمقراطية هو أن الإخفاق في إدارة التنوع وتجاذب الرؤى السياسية دفعا قوى سياسية للنهج الانقلابي، ولكن في الحالات الثلاث الذين لجأوا للخيار الانقلابي حصدوا الهشيم وصار الدرس أن النهج الانقلابي للطامح السياسي يدمر نفسه.

3. كما أن الإخفاق في إدارة التنوع أدى لحركات مقاومة مسلحة، وصار الدرس أن مظالم التنوع الثقافي والاجتماعي تغذي التمرد المسلح.

4. الانقلابات العسكرية تفاوتت في سوئها من الأول الأقل سوءاً، إلى الثاني الأكثر سوءاً منه، إلى الثالث الأسوأ على الاطلاق. ولكن مع اختلاف في بعض التفاصيل فإن النظم التي أقامتها الانقلابات اتفقت في خمس صفات:
· أنها كانت بحاضن سياسي معين.
· أنها بطشت بالآخر غير المنتمي إليها.
· أنها أخفقت في إدارة الاقتصاد الوطني.
· أنها حولت العلاقات الخارجية إلى وسائل لدعم سلطانها.
· أنها اتسمت بغياب الشفافية والفساد، ما يشكل ترياقاً مضاداَ لإقامة النظم الاستبدادية.

5. المقاومة المسلحة للنظم الانقلابية استنزفتها ولكن لم تهزمها، ما يجعل المقاومة المدنية هي الصفقة المرجحة.

6. المقاومة المدنية بعزيمة ثابتة نزعت عنها الشرعية وأفرزت قوى جديدة تضامنت مع قوى تليدة لتحقيق حركة مقاومة مدنية واسعة. هذا التحالف هو سر النجاح. وفي الحالات الثلاث فإن القوات المسلحة الوطنية تخلت عن النظام الانقلابي وانحازت للشعب، الضلع الثالث للتحالف.

7. في كل الحالات اتضح أن الشعارات الفكرية التي يرفعها الانقلابيون سواء كانت اشتراكية أو إسلاموية هي شعارات فارغة، فالنظام يعتمد في الحقيقة على تدابير أمنجية ومحاور خارجية.

8. الفترتان الانتقاليتان السابقتان لم تساهما في التمهيد لاستعادة الديمقراطية كما يجب لغياب الخطة المناسبة. الفترة الانتقالية الحالية يهدد استقرارها طموح قوى سياسية وثورية لتحقيق مكاسب سياسية مكانها الصحيح هو التنافس الانتخابي القادم في المرحلة الثالثة للثورة الوطنية. إنه طموح غير مشروع ونتائجه ضارة.

9. هنالك علماء سياسة نظريون لا يحيطون بحقائق مدرسة النضال السودانية، ويختارون فصائل معينة يرشحونها وحدها قاطرة لبناء الوطن في المستقبل هؤلاء حملة علم لا ينفع.

10. إطلاق الأحكام بالجملة على الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني غفلة كبيرة، فبعض هذه القوى حية ومعطاءة وبعضها خاملة وميتة: (مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَىٰ وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ۚ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا ۚ)[1]؟

ثانياً: ارتكب النظام الذي أقامه انقلاب 25/5/1969م عشر خطايا تسود صفحته التاريخية، وتبرر الثورة الشعبية ضده وانحياز القوات المسلحة لخلع الطاغية في 6/4/1985م هذه الخطايا هي:
1. الانقلاب العسكري من حيث هو مدان قانوناً بتقويضه للدستور، ومذموم إنسانياً بانتهاك حقوق الإنسان كجريمة إرهابية لنهبه السلطة وشهره السلاح في وجه مدنيين عزل، أما دينياً فقد قال عنه الإمام الالباني إنه أسلوب ماكر مناقض للنهج الإسلامي. النهج الإسلامي ينص على: (وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ)[2]، والانقلاب تدبير تامري يفرض سلطة بالقوة.

2. منذ أيامه الأولى أعلن النظام المايوي أن البلاد صارت ديمقراطية شعبية: عنوان الانحياز للمعسكر الشرقي الشيوعي، وشرع يطبق برنامج حزب أقلية في البلاد بصورة فوقية فأقام استقطاباً حاداً في الجسم السياسي.

3. أدخل النظام الانقلابي نظام الحكم الشمولي الستاليني ثم الناصري لحكم البلاد بالقبضة الأمنجية والإعلام الكاذب.

4. اعتمد النظام على حلف وارسو في المرحلة الأولى، ثم انقلب واستعان بحلف ناتو. وفي مواجهة انتفاضة الجزيرة أبا وودنوباوي اعتمد النظام على حلف طرابلس الثلاثي للبطش بمدنيين عزل في الجزيرة أبا وودنوباوي وأعدم الإمام الشهيد الهادي المهدي بعد أسره فارتكب جريمة حرب ضده وضد أسرى آخرين.

5. قرر النظام أن يشركني في باطله وإلا قتلني. اعتقلت وعدد من زملائي في 25 سبتمبر1983م وأرسل لي في السجن أن أرد مكتوباً لكي يؤسس على ذلك محاكمتي بالبغي لمخالفة أحكام الشريعة. ولكنني رفضت فقرر إطلاق سراحنا لكي أصرح بموقفنا من قوانين سبتمبر 1983م ليؤسس على ذلك حيثيات حكم الإعدام. فطنت للخطة ولم أصرح بعد إطلاق سراحنا ونبهت الزملاء في السجن من الجمهوريين، كانوا معنا وعاتبناهم على تأييد طغيان نميري في البداية بل حرضوه ضدنا. نبهناهم لهذا الشرك المنصوب ولكن رفضوا النصيحة بل قالوا إن النميري أدرك خطاه في النهج الإسلامي الأخواني ويريدنا أن نخرج من السجن لندعم موقفه هذا، ولكن وقعوا في الشرك المنصوب أصلاً لنا، وعندما أعلن الأستاذ محمود محمد طه بعد إطلاق سراحه موقف الرفض لقوانين سبتمبر قرر النظام إعدامه على حكم قديم بالردة.

لا يوجد حد ردة في الشريعة لأن الاعتقاد في الإسلام يقوم على أساس: (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ)[3]. كان هذا الإعدام جريمة ضد الإنسانية.

6. دمر النظام الاقتصاد الوطني، وكانت التأميمات العشوائية التي طبقها كارثة على الاقتصاد. الدولار الذي كان قبل النظام جزءاً من الجنيه صار بعده الجنيه جزء من الدولار.

7. الاستبداد والتدهور الاقتصادي أدى لحركات نقابية مضادة أهمها: مواجهات مع القضاة 1981م، وإضرابات محامين، وأطباء، وصيارفة، وقاد الضيق الشعبي والتحرك النقابي لتفجر انتفاضة شعبية في يناير1982م، وأصدر النظام قانون الطمأنينة القمعي للجمها، مما أسفر عن معركة بين النظام والقضاة، فلجأ لإعلان ما سماه الثورة التشريعية في سبتمبر1983م ليصنف معارضيه بأنهم بغاة واعتبار معارضة النظام معارضة لله ظلماً وعلواً.

8. استفاد النظام من تحضيرات الديمقراطية الثانية وإبرام اتفاقية سلام 1972م مع المقاومة الجنوبية. ولكن غدر بالاتفاقية مما أدى لانطلاق حركة أقوى بقيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان في مايو 1983م.

9. انحياز النظام للمعسكر الغربي وتصرفه كعميل للناتو بما في ذلك ترحيل الفلاشا لإسرائيل وإعطاء الولايات المتحدة تسهيلات عسكرية في البحر الأحمر أدى لدعم حلف عدن المنحاز لمعسكر وارسو للحركة الشعبية ودعمها بكل الوسائل فصارت أقوى بمراحل من التمرد الذي أنهته اتفاقية 1972م.

10. لأول مرة في تاريخ السودان الحديث عمل النظام على تأليه الحاكم بصورة شاذة. تأليه ساهم بعض المثقفين في دعمه أمثال الأستاذين عمر الحاج موسى، وجعفر محمد علي بخيت. آخرون كمنصور خالد ممن طبل للسفاح أول عهده، وقادة جبهة الميثاق الإسلامي الذين بايعوه إماماُ بعد قوانين سبتمبر اكتسبوا: من أعان ظالماً على ظلمه سلطه الله عليه.

11. ولكن كثيراً من الذين ساهموا في التأليه اكتشفوا خطيئتهم ـ مثلاًـ مقولة منصور خالد عن الفجر الكاذب، ومقولة: مرتضى احمد إبراهيم في كتابه: مذكرات وزير ثائر، ومقولة: عبد الكريم ميرغني لي: أجرمنا في حق الوطن أعدمونا عندما تطيحوا بهذا النظام. ومقولة: محمد التوم التجاني لنا عذراً لقد اسأنا إليكم واتبعنا “الصعاليك”.

ثالثا: دورنا في المسيرة حتى 6 أبريل هو:

1. رفض الانقلاب منذ البداية والموقف القوي الذي قاده الإمام الشهيد الهادي المهدي ومن تحالف معه ما أدى لمذبحة الجزيرة أبا ودونوباوي وأحداث الكرمك.

2. كانت هجرة الأنصار لأثيوبيا حدثاً تاريخياً غير مسبوق حيث عسكروا هناك ثم انتقلوا إلى ليبيا وكانوا هم ومن تحالف معهم من اتحاديين وإخوان مسلمين وقود انتفاضة 2يونيو1976م والتي كادت تطيح بالنظام بقيادة الشهيد محمد نور سعد.

3. بعد تلك الانتفاضة تخندق النظام في حلف الدفاع المشترك وأدرك أن زعمه أنه قد قضى على القوى المعارضة باطل لذلك عرض علينا المصالحة الوطنية التي قبلتها كل الجبهة الوطنية في البداية وإن عارضتها القيادة الليبية.

4. مع أن النظام أخلف التزاماته بالمصالحة الوطنية التي بينتها في كتابي المصالحة من الألف للياء، لكن أوفى بأطلاق سراح كوادرنا الذين كانوا عن بكرة أبيهم في السجن. كما أتاح هامشاً من الحرية مكننا من تنظيم بعض النقابات الحرة التي تحركت فيما بعد.

5. اتحاد جامعة أم درمان الإسلامية المنتخب، والمكون من تحالف التضامن الإسلامي الذي يقوده طلابنا، تحرك في مظاهرة صاخبة ضد النظام في أم درمان 26 مارس1985م.

· دعت النقابات الحرة المنتخبة في مناخ المصالحة لموكب كبير يقوده التجمع النقابي في الخرطوم وكان موكباً ضخماً وجهز النظام لموكب مضاد فيه توعد وزير إعلان النظام محمد عثمان أبوساق أننا سوف نقبضهم كالأرانب ونقتلهم كالعقارب، موكب النظام كان هزيلاً.

· كان دورنا بالإضافة لمشاركة لكوادرنا في مواكب التجمع النقابي هو:

ـ اجتماع ببعض قادة القوات المسلحة: الفريق توفيق خليل ألا تبطش القوات المسلحة بموكب التجمع النقابي كان الاجتماع في 1/4/1985م ووعد بأنهم سوف يقيمون الموقف لتحديد موقفهم منه.

ـ وعن طريق الدكتور أمين مكي زودنا الموكب بميثاق الانتفاضة ليلاً قبل تحرك الموكب.

ـ وفي يوم الجمعة 5 أبريل ألقيت خطبة الجمعة ناشدت فيها الجميع دعم الموقف المعارض والالتزام بإضراب عام حتى نهاية النظام. وفي نفس الخطبة ناشدت القوات المسلحة أن تؤيد الحركة الشعبية وتطيح بالنظام.

ـ القوات المسلحة السودانية تأكيداً لصدق وطنتيها تحركت يوم السبت 6/4/1985م وخلعت الطاغية.

إنها مناسبة تاريخية تستحق الذكرى ودرس في النضال يستحق التمجيد.

ولمن يهمهم البعد الروحي فقد بُشرت بتاريخ هذه النهاية في الرؤيا في ديسمبر 1984م وما زلنا في السجن. وبشر بهذه النهاية قبلي الشيخ أبو العباس في القطينة في عام 1970م عندما كنت في السجن ودبرت ضدي مؤامرة فأعلن الحاضرون هتافاً يخصني: لا تحفظ بل إعدام فقال الشيخ أبو العباس لهم: يكذبون وسوف ينجو منهم ويزول نظامهم كما روى أحد الحاضرين: الأخ محمود موسى محمد احمد.

معارف بعض الناس عقلية ومعارف آخرين روحية. اجتمع ابن سينا الفيلسوف العقلاني مع ابي سعيد بن ابي الخير الصوفي للتفاكر ثلاثة أيام. بعد هذه المناسبة سئل ابن سينا عما دار فيها فقال: ما اعرفه يراه. وسئل أبو سعيد فقال: ما أراه يعرفه.

ذكرى رجب أبريل ليست تاريخاً جامداً وحسب، بل ظلت ملهمة لشعبنا الذي استلهمها في مواجهة عصبة الإنقاذ، فكان موكب السادس من أبريل 2019م آخر مسمار دق في نعش نظامهم المباد.

وستظل الذكرى هادية للأجيال القادمة لتكون ممسكة بالحرية لافظة للطغيان.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.