مفاوضات السلام بين الواقع و التضليل

0 120

بقلم : أحمد تقد لسان

تأتي هذه المحاولة في سياق تقييم شامل لعملية السلام الجارية في منبر جوبا بجنوب السودان، و ما تم تحقيقها من نتائج و إنجازات و مآلات العملية السلمية التي دخلت مراحلها النهائية بعد حوالي ستة اشهر من الحوار و التفاوض المستمر، و ما يميز هذه المفاوضات دون غيرها من التجارب السابقة انها شاملة من حيث القضايا و الاطراف و استطاعت ان تصل الي تفاهمات متقدمة تمخضت عن نتائج ملموسة تمثلت في العديد من الاتفاقيات بين أطراف الأزمة السودانية ابتداءا بإعلان جوبا لإجراءات بناء الثقة و التمهيد للتفاوض، و الإعلان السياسي الموقع بين جمهورية السودان و الجبهة الثورية، و المحضر المفصل حول الأجندة التفصيلية و تحديد ملفات التفاوض في المسارات المختلفة، هذا بالإضافة الي اتفاق تجديد وقف العدائيات للأغراض الإنسانية و التوقيع علي الاتفاق الإطارىً لمسارى دارفور و المنطقتين (جبال النوبة و النيل الازرق) و التوقيع علي اتفاق مسارات؛ الشرق و الوسط و الشمال، بالإضافة الي التفاوض حول العديد من الملفات المرتبطة بالأزمة في دارفور و المنطقتين.
بالأمس تم التجديد علي اعلان جوبا إلى التاسع من مايو 2020 كموعد نهائي للتوصل الي اتفاق سلام شامل و نهائي، و جاء هذا التجديد بعد التعثر الذى طرأ اخيرا علي العملية التفاوضية نتيجة للوفاة المفاجئ لوزير الدفاع و رئيس وفد الحكومة للترتيبات الأمنية، عليه الرحمة و المغفرة ، و الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها حكومة جنوب السودان نتيجة لجائحة فيروس كورونا مما استدعي ابتكار وسائل و طرق جديدة للإستمرار فى العملية التفاوضية و تكملة ما تبقت من ملفات و قضايا التفاوض عبر الحوار غير المباشر.
و علي خلفية ما تناقلته بعض وسائل الإعلام من اخبار و محاولات تشكيك بعض الاطراف في الداخل و الخارج للتقليل من شأن العملية السلمية الجارية في منبر جوبا و مقدرتها على التوصل الي إتفاق سلام شامل يخاطب قضايا الحرب و السلام و ينهي مأساة المواطن السوداني، لابد من تقييم سريع لحجم الإيجابيات و النتائج التي تمخضت عن المفاوضات مع التركيز علي نتائج مسار دارفور بصفته الأكثر أهمية وتعقيدًا.
في مقاربة بسيطة بين التجارب السابقة في مفاوضات و اتفاقيات السلام الخاصة بملف دارفور و التي كانت نتائجها النهائية كارثية بما تحمل هذه الكلمة من معنى، فشلت جميعها على مخاطبة جذور الأزمة و معالجة إفرازاتها و انتهت الي وظائف و إمتيازات مرحلية لبعض من موقعيها سواء كانت في أبوجا او الدوحة. ما يميز التجربة الحالية الجارية في جوبا هو تفادى سلبيات التجارب السابقة و التركيز علي مخاطبة أسباب و دواعي قيام الثورة و النزاع، مع الفصل التام بين الحصول علي وظائف مرحلية لبعض الأفراد في الحكومة و إستيعاب مكونات دارفور المختلفة فى مؤسسات الدولة السودانية، و ذلك من خلال التركيز علي معالجة الاختلالات الهيكلية لبنية مؤسسات الدولة حتى تكون مستوعبة و ممثلة لكل مكونات الشعب السوداني بما فيها مواطني دارفور وفق معايير موضوعية و الاتفاق علي الآليات التي تمكنهم من الدخول في هذه المؤسسات و الاستيعاب فيها وفق جداول زمنية محددة الآجال، لذلك جاء التركيز في الخدمة المدنية و استيعاب الناس في جميع الوظائف العامة فيها كأولوية قصوى و ما تم التوصل فيها من نتائج لا ينكرها إلا مكابر.
ظلت قضية الحكم و الإدارة و العودة الي نظام الأقاليم و مطالبة أهل دارفور بالإقليم الواحد مع الاحتفاظ بالولايات من المطالب الأساسية المرتبطة بجذور الصراع و كانت حاضرة في جميع محطات التفاوض من لدن أبوجا و انتهاء بالدوحة لكنها فشلت في تحقيق هذا المطلب. و ما يميز منبر جوبا دون غيره من المنابر هو ان المنبر استطاع ان يثبّت العودة الي نظام الأقاليم بما فيها اقليم دارفور بل حدد طبيعة السلطات و الصلاحيات و المهام التي يجب ان تخصص للأقاليم ترسيخًا لمفهوم الفدرالية الحقيقية التي تمكن أهل الأقاليم من حكم نفسه في إطار السودان الموحد، و هذا ايضا يعد إنجازا غير مسبوق و لا يمكن القفز فوقه دون مسوغ موضوعي او بمبررات لا تقف علي أرجل سليمة.
الحرب اللعينة التي دارت في دارفور تركت إفرازات و جروح عميقة في وجدان الشعب في دارفور، و الانتهاكات الجسيمة لقواعد القانون الإنسانى الدولي و قانون حقوق الإنسان الدولي و المطالبة بالمساءلة و المحاسبة و إنصاف الضحايا و محاربة ظاهرة الإفلات من العقاب، من المطالب الأساسية التي نادى بها الضمير العالمي قبل الضحايا، ففي الوقت الذى فشلت فيه التجارب السابقة على معالجة مسألة العدالة و المسآءلة، خصص منبر جوبا مساحة واسعة لملف العدالة و المساءلة و المصالحة و أمن علي العدالة الإجرائية و توصل الي تفاهم للتعاون الكامل و اللامحدود مع المحكمة الجنائية الدولية بخصوص الأشخاص الذين صدرت بحقهم أوامر قبض و تسليمهم للمحكمة الجنائية و الالتزام بقرار مجلس الأمن رقم ١٥٩٣ و التي تم بموجبه إحالة حالة دارفور الي المحكمة الجنائية، هذا بالإضافة الي اتفاق علي إنشاء محكمة خاصة لجرائم دارفور لمحاكمة الأشخاص المشتبه في إرتكابهم جرائم في دارفور مع الاتفاق علي تعيين قضاة و نيابة مستقلة تتمتع بالاستقلالية المالية و الإجرائية حتى تستطيع القيام بالمهام الموكلة إليهما مع وجود خبراء و مختصين دوليين للتأكد من حسن سير الإجراءات وفقا لقواعد العدالة و الإنصاف الواردة في القانون الدولي، هذا بالإضافة الي الاتفاق علي آليات العدالة الانتقالية للمساهمة في إنصاف الضحايا و رتق نسيج المجتمع المنقسم و التئام الجراح في دارفور و فتح صفحة جديدة للتعايش و السلم المجتمعي و بناء مستقبل مشترك بين مكونات المجتمع المختلفة لغد أفضل، و تعد هذه الخطوة غير المسبوقة إنجاز تاريخي في مفاوضات السلام الخاصة بدارفور و لم يسبق له مثيل من قبل.
قضية الأرض و الحواكير و الحقوق التقليدية في ملكية الأراضي و الحقوق التاريخية المتعلقة بالأرض من الإفرازات المباشرة للنزاع في دارفور و لم تجد هذه القضية حظها في مفاوضات السلام السابقة، و كغيرها من القضايا ظلت مشتعلة و تمثل عنصرا لعدم الاستقرار و النزاع المستمر بين المكونات المجتمعية في دارفور، ففي منبر جوبا تم الاعتراف و الإقرار بهذه الحقوق و تم الاتفاق علي حق الأفراد و الجماعات في استرداد الأراضي و الاتفاق علي الآليات الخاصة باسترداد الأرض و الحواكير و اختصاصات و صلاحيات هذه الأليات للفصل في المنازعات المتعلقة بالأرض و الاسترداد.
من الإفرازات الماثلة للعيان وجود الملايين من مواطني دارفور في معسكرات النزوح و اللجوء طوال تاريخ الصراع الممتد علي ما يقارب العقدين من الزمان، حيث فشلت كل الاتفاقيات السابقة على معالجة قضية العودة الطوعية للنازحين و اللاجئين. وفي هذالصدد، فقد تم الاتفاق في منبر جوبا علي حق العودة الطوعية للنازحين و اللاجئين، مع خلق الظروف الملائمة للعودة الطوعية و تثبيت حقوق الملكية و السكن و التعويض و السلامة و الأمن و الحماية و خلق آليات توفير الأمن ووصول المساعدات الإنسانية مع وضع إستراتيجية التوطين الشاملة لضمان العودة، و تخصيص تمويل كافي من ميزانية صندوق سلام دارفور لأغراض العودة.
اعطي منبر جوبا لأول مرة في تاريخ المفاوضات اهتماما كبيرا لقطاع الرحل و الرعاة و القطاعات المتضررة من الحرب و التهميش التنموى و أمن علي حقوق الرحل و الرعاة و وضع سياسات بديلة تلبي حاجة الرعاة و الرحل في حق استخدام الأرض و الموارد الطبيعية، و قد تم الاتفاق علي إنشاء مفوضية تنمية الرحل و الرعاة لوضع استراتيجية لمعالجة قضاياهم مع تخصيص موارد من صندوق دعم السلام و التنمية المستدامة في دارفور لذلك الغرض.
تم الإقرار بحق ضحايا النزاع فى التعويض ورد الحقوق و جبر الضرر، و في هذا الشأن فقد تم تخصيص ملف خاص بالتعويضات و جبر الضرر، و هذا لم يكن امرا ميسورا في التجارب السابقة، و لأن السلام العادل و المستدام يتطلب إقرار العدالة للضحايا و الإنصاف في الحصول علي التعويض علي الأضرار الناجمة عن النزاع علي المستوى الفردي و الجماعي و علي الممتلكات و الإضرار النفسية و البدنية و علي الفرص المفقودة، أنشئت مفوضية التعويضات و جبر الضرر لتمويل التعويضات الخاصة برد الحقوق و جبر الضرر المتعلقة بالنازحين و اللاجئين، ورد الحقوق و جبر الضرر المتصلة بالأرض و بالعدالة و المساءلة و المصالحة. و في هذا الصدد، إلتزمت الحكومة السودانية بدفع مبلغ اولي قدره (٥٠٠) خمسمائة مليون دولار سنويا لمدة عشر سنوات لصندوق سلام دارفور لتغطية نفقات عمل مفوضيات و آليات السلام المختلفة وإلتزمت بالسعي للبحث عن المزيد من الدعم من المجتمع الدولي و الشركاء الدوليين، و مازال التفاوض جارى حول المبلغ المناسب لتغطية إحتياجات نفقات المفوضيات المختلفة، بالإضافة الي الميزانيات المخصصة للإقليم . و التفاوض مستمر حول تخصيص نسبة من الموارد الطبيعية المستخرجة من الإقليم و يمكن التوصل فيها الي تفاهم حول نسبة معتبرة لدعم السلام.
من النتائج الإيجابية التي تعد تطورا ايجابيا في محصلة مفاوضات جوبا هي العلاقة مابين اتفاق السلام و الوثيقة الدستورية في حال وجود تعارض، و كان هذا الموضوع هو سبب الخلاف بين قوى الحرية و التغيير و الجبهة الثورية، و فى هذا الخصوص فقد تم الإتفاق علي انه في حالة التعارض يزال التعارض بتعديل الوثيقة الدستورية. و من النتائج الإيجابية أيضا الاتفاق علي استثناء الحركات السياسية المسلحة من شروط قانون تسجيل ألأحزاب السياسية لسنة 2007 شريطة أن تكون قد وقعت علي إتفاق سلام يشتمل علي الترتيبات الأمنية.
و لتكتمل الصورة بعيدا عن ألإنتقائية فى سرد القضايا التى تم التوصل على تفاهم فيها وتلك التى لم يتم الوصول على تفاهم حولها، فإن من الطبيعى فى مفاوضات السلام أن تكون هنالك قضايا عالقة يتم حسمها خارج قاعات التفاوض فى المراحل الاخيرة على مستوى القيادات العليا، و من الجهل بمكان عدم المقدرة على الفصل ما بين الاستراتيجى الذى يحقق المصلحة الكلية و الاجرائى الشكلى الذى يعطل الوصول الى السلام الشامل فى هذا الظرف المفصلى والدقيق من تاريخ السودان.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.