“نحن جميعاً على متن سفينة “أميرة الألماس” حيث تفشى الفيروس

0 119
كتب: سلافوي جيجيك
لي وينليانغ، الطبيب الذي كان أول من اكتشف وباء الفيروس التاجي الحالي ومورست ضده الرقابة من قبل السلطات الصينية، كان بطلاً أصيلاً من أبطال عصرنا، من نوع تشيلسي مانينغ أو إدوارد سنودن آسيوي. أثار موته، بطبيعة الحال، الغضب العام.
كان رد فعل الدولة الصينية على هذه الإدارة للوباء متوقعاً وكان أفضل من لخصه تعليق الصحافية المقيمة في هونغ كونغ، فيرنا يو Verna Yu: “لو كانت الصين تعلي من شأن حرية التعبير، لم يكن هناك أزمة فيروس كورونا”. ” سوف تتكرر مثل هذه الأزمات طالما أن حرية التعبير والحقوق الأساسية للمواطنين الصينيين غير محترمة. […] قد لا يبدو أن حقوق الإنسان في الصين تهم بقية العالم، ولكن كما رأينا في هذه الأزمة، فإن كارثة ما يمكنها أن تقع من واقع أن الصين تقمع حريات مواطنيها. لقد حان الوقت لأن يأخذ المجتمع الدولي هذه القضية بجدية أكبر”.
من الصحيح أن عمل جهاز الدولة الصينية بكامله يعارض شعار ماو القديم الذي يقول “ثقوا بالشعب!”. تعتمد طريقة الدولة في التصرف على فرضية أنه لا يجب الوثوق بالناس: يجب أن يكون الشعب محبوباً ومحمياً ومعتنى به… لكن لا مجال للوثوق به. ليس انعدام الثقة هذا في نهاية المطاف سوى التجسيد الأخير لموقف تتبناه السلطات الصينية بشكل منهجي عندما تواجه احتجاجات بيئية أو مشاكل متعلقة بصحة العمال.
في الواقع، يبدو أن السلطات الصينية تلجأ بشكل متزايد إلى العملية التالية: شخص ما (ناشط بيئي، طالب ماركسي، رئيس الانتربول، واعظ ديني، ناشر من هونغ كونغ، أو حتى ممثلة في السينما الشعبية) يختفي تماماً لبضعة أسابيع، قبل أن يعاود الظهور علانية في نفس الوقت الذي تنتشر فيه اتهامات موجهة ضده. إنها تلك الفترة الطويلة من الصمت التي توصل الرسالة المفتاحية: تتم ممارسة السلطة بطريقة لا يمكن اختراقها، لا شيء تم إثباته، ولا يتدخل المنطق القانوني إلا في ما بعد، بعد أن يتم إيصال هذه الرسالة…
ومع ذلك، فإن حالة الطلاب الماركسيين المفقودين محددة: فإذا كانت جميع حالات الاختفاء متعلقة بأفراد يمكن وصف أنشطتهم بطريقة ما بأنها “تهديد” للدولة، فإن الطلاب الماركسيين المفقودين يضفون الشرعية على نشاطهم النقدي بالرجوع والإشارة إلى الأيديولوجية الرسمية نفسها.
صمت ومؤامراتية
ما أثار رد فعل مذعور كهذا داخل قيادة الحزب كان بالطبع شبح شبكة مستقلة ناشئة، مع روابط أفقية مباشرة بين مجموعات من الطلاب والعمال، على أساس الماركسية، تجذب تعاطف بعض كوادر الحزب السابقين وحتى بعض فروع الجيش. مثل هذه الشبكة تأتي لتقوّض بشكل مباشر شرعية الحزب الواحد ولتدينه باعتباره تزييفاً.
لا عجب إذن أنه في السنوات الأخيرة تم إغلاق العديد من المواقع الإلكترونية “الماوية” وتم حظر العديد من مجموعات النقاش الماركسية من الجامعات – إن أخطر ما يمكن للمرء القيام به اليوم في الصين هو أن يصدّق ويأخذ بجدية الإيديولوجية الرسمية نفسها. تدفع الصين من الآن فصاعداً ثمن هذا الموقف:
“بحسب غابرييل ليونغ Gabriel Leung كبير خبراء الأوبئة في قطاع الصحة العامة في هونغ كونغ، إذا لم تتم السيطرة على هذا الوباء فمن الممكن أن ينتشر بين ثلثي سكان العالم. وقال إن الناس كانوا بحاجة إلى الإيمان بحكومتهم بينما يعمل المجتمع العلمي على إزالة عدم اليقين بشأن الوباء الجديد، “ولكن مع وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تختلط الأخبار المزيفة والحقيقية، لا توجد أي ثقة، فكيف نحارب هذا الوباء؟” يتطلب الأمر، على العكس من ذلك، جرعة إضافية من الثقة، وشعوراً متقدماً بالتضامن، ومقداراً إضافياً من حسن النية، كل الأشياء التي تم استنفادها بالكامل”.
في مجتمع صحي، يجب أن يتم سماع أكثر من صوت واحد، كما قال الدكتور لي من فراشه في المستشفى قبل وفاته بقليل، وهذه الحاجة الملحة للتعددية لا تعني بالضرورة أنه يجب نسخ النموذج الغربي لديمقراطية متعددة الأحزاب. إنه يدعو ببساطة إلى فتح حيز يمكن فيه سماع انتقادات المواطنين. إن الاعتراض الرئيسي على فكرة أن الدولة يجب أن تتحكم في الشائعات لتجنب الذعر هو أن هذا التحكم نفسه ينشر عدم الثقة ويخلق بالتالي المزيد من الشائعات المؤامراتية – فقط الثقة المتبادلة بين الشعب والدولة يمكن أن تعمل.
الانضباط مقابل النزعة الفردية
يجب أن تكون الدولة قوية خلال فترة من الوباء، لأنّ تدابير واسعة النطاق يجب أن تتخذ ويتم تطبيقها بانضباط عسكري (مثل الحجر الصحي). تمكنت الصين من عزل عشرات الملايين من الأشخاص. لنتخيل للحظة انتشار وباء هائل كهذا في الولايات المتحدة، هل ستتمكن الدولة أن تطبق نفس الإجراءات؟ يمكن المراهنة على أن الآلاف من الليبرتاريين المسلحين سيفرضون الطريق، مشتبهين في أن الحجر الصحي هو مؤامرة دولتية…
بالتالي، هل كان من الممكن منع انتشار الفيروس عبر مزيد من حرية التعبير أم أن الصين على طريق التضحية بمقاطعة هوبي من أجل إنقاذ العالم؟ بمعنى ما، كلا الأمرين صحيح، وما يزيد الأمور سوءاً هو أنه لا توجد طريقة واضحة للتمييز بين حرية التعبير “الجيدة” والشائعات “السيئة”. عندما ترفع أصوات تشتكي من أن السلطات الصينية “ستعامل الحقيقة دائماً على أنها شائعة”، يجب أن نضيف أن وسائل الإعلام الرسمية والمجال الواسع للمعلومات الرقمية مليئة بالفعل بالشائعات.
أظهرت “القناة الأولى”، إحدى القنوات التلفزيونية الوطنية الروسية الرئيسية، كيف يمكن تضخيم الشائعات عن طريق توفير مساحة منتظمة مخصصة لنظريات المؤامرة حول فيروس كورونا ضمن برنامجها الإخباري المسائي الرئيسي Vremya (“الزمن”). بأسلوب ملتبس، تبدو تقارير البرنامج كما لو أنها تفضح تلك النظريات بينما تترك في الوقت نفسه لدى المشاهدين انطباعاً بأنها تحتوي على نواة من الحقيقة. الرسالة (نخب الظل الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، هي المسؤولة في نهاية المطاف عن أوبئة فيروس كورونا) تنتشر على هذا النحو كإشاعة مريبة، قابلة للأخذ والرد: إن من الجنون أن يكون هذا الأمر حقيقياً، لكن مع ذلك، من يدري… الغريب هو حقيقة أن تعليق الحكم على حقيقة شيء لا يلغي فعاليته الرمزية.
بالإضافة إلى ذلك، يجب علينا أيضاً أن نتوقف عن التفكير في أنه من الأفضل في بعض الأحيان عدم قول الحقيقة كاملة للجمهور لمنع الفزع، بذريعة أنه يمكن أن يؤدي إلى ضحايا جدد. في المرحلة التي نجد أنفسها فيها، فإن المشكلة لا نهاية لها: السبيل الوحيد هو الثقة المتبادلة بين الشعب وأجهزة الدولة، وهذا هو ما يُفتقر إليه إلى بعنف في الصين.
“حرب العوالم” الجديدة
في حالة انفجار وباء عالمي، فهل ندرك جيداً واقع أن آليات السوق لن تكون قادرة على حمايتنا من الفوضى ومن الجوع؟ يجب أن تؤخذ التدابير التي تبدو لمعظمنا اليوم على أنها “شيوعية” بعين الاعتبار والتنفيذ على المستوى العالمي: تنسيق الإنتاج والتوزيع من خارج إحداثيات السوق. يجب التذكير هنا بالمجاعة الكبيرة للبطاطس التي دمرت أيرلندا في أربعينيات القرن التاسع عشر، مسببة ملايين الوفيات أو المجبرين على الهجرة. احتفظت الدولة البريطانية بثقتها بآليات السوق، واصلت أيرلندا تصدير المواد الغذائية بينما كان ملايين الأشخاص في حالة من الضيق الشديد… لم يعد من الممكن التسامح اليوم مع هذه القسوة.
يمكن أن ينظر إلى وباء الفيروس التاجي على أنه نسخة مقلوبة من “حرب العوالم” لهربرت جورج ويلز (1897). يحكي الكتاب عن غزو المريخيين للأرض، ثم يكتشف البطل-الراوي اليائس أن جميع المريخيين قد أبيدوا بواسطة ميكروبات أرضيّة لم يكونوا محصنين ضدها: “قُتلوا، بعد فشل كل الاستراتيجيات البشرية، بواسطة أكثر الأشياء تواضعاً التي وضعها الله، في حكمته، على هذه الأرض”.
من المثير للاهتمام أن نعرف، بحسب ويلز، أنه تم توصل إلى فكرة الحبكة بعد مناقشة مع شقيقه فرانك حول الأثر الكارثي للبريطانيين على سكان تسمانيا الأصليين. وتساءل عما كان سيحدث إذا ما فعل المريخيون ببريطانيا ما فعله البريطانيون بالتسمانيين؟ (لكن التسمانيين لم يكونوا يمتلكون مسببات الأمراض الفتاكة لهزيمة غزاتهم).
ربما ينبغي بالفعل النظر إلى الأوبئة التي تهدد بتدمير البشرية على أنها نسخة مقلوبة من قصة ويلز: “الغازي المريخي” الذي يستغل ويدمّر الحياة على الأرض بلا رحمة هو نحن أنفسنا، البشرية، وبعد فشل جميع الاستراتيجيات الأكثر تطوراً لمحاربتنا، نحن الآن مهددون “من قبل أكثر الأشياء تواضعاً من بين تلك التي وضعها الله، في حكمته، على هذه الأرض”، فيروسات غبية تتكاثر خبط عشواء – وتنتشر.
Usual suspects
يجب علينا بالطبع أن نحلل بالتفصيل الظروف الاجتماعية التي جعلت وباء الفيروس التاجي ممكناً – يكفي التفكير فقط في الكيفية التي يمكن من خلالها، في عالم اليوم المترابط، لبريطاني أن يقابل شخصاً ما في سنغافورة، ويعود إلى إنكلترا ثم يذهب للتزلج في فرنسا، ويقوم هناك بنقل العدوى إلى أربعة أشخاص آخرين… المشتبه بهم المعتادون يصطفون بالدور ليتم استجوابهم: السوق الرأسمالية العالمية… إلخ.
ومع ذلك، يجب علينا أن نقاوم الإغراء المتمثل في الرغبة في العثور على معنى خفي للأوبئة الجارية: على سبيل المثال، العقوبة القاسية ولكن العادلة للبشرية بسبب استغلالها الذي لا يرحم لأشكال الحياة الأخرى على الأرض أو أمراً آخر من هذا النوع… إذا لم يكن بوسعنا منع البحث عن معنى عميق لهذه الأحداث، فذلك لأننا نبقى في العمق سابقين على الحداثة: نقارب كوننا باعتباره شريكاً أو محاوراً.
لأنه حتى إذا كان بقاؤنا مهدداً، فلأن هنالك شيئاً ما مطمئناً في واقعة أن يتم عقابنا – الكون (أو حتى “شيء ما” هو هناك) يراقبنا… وأكثر الأمور التي لا يمكن قبولها هو أن لا تكون تلك الأوبئة سوى نتاجاً محضاً للعرض الطبيعي: لقد حدث هذا ببساطة وليس له أي معنى خفي. نحن، في النظام الأكبر للأشياء، نوع غير مهم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.