رمضان وحبي الكبير بدين

0 115

كتب: جعفر عباس
عشت معظم سنوات عمري (قبل الاغتراب) ما بين كوستي والخرطوم بحري، وتربطني ب”بحري” مودة من نوع خاص، ربما لأن معظم أهلي يقيمون فيها، فبعد أن تم تهميش مدينة كوستي رحل بقية أهلي منها الى الخرطوم بحري. وقبل سنوات استعنت بصديق ليساعدني على شراء قطعة أرض، فجاءني بعروض من الخرطوم وأم درمان، فقلت له: قضيت نصف عمري مغتربا، خارج السودان ولست على استعداد للاغتراب داخله.. يا بحري أو بلاش.
وبالمقابل عشت في جزيرة بدين موطني الأصلي تسع سنوات فقط، وخرجت منها بعد إكمال المرحلة المتوسطة ولم أعد إليها حتى الآن، ولكن كل ذكرياتي عن رمضان والعيدين وعاشوراء، تتعلق ببدين وكانت كل الرمضانات التي شهدتها هناك في عز الصيف، وعندنا في شمال السودان حر “تتكل عليه العصا”، وكان المكان المفضل لقيلولة الصائمين هو المزيرة، وما من بيت في بدين إلا وبه مزيرة حسنة البناء ومسقوفة تضم أربعة أزيار على الأقل.
لم يكن أهلنا على ثقافة دينية تجعلهم ينصحوننا نحن الأطفال على الاعتياد المتدرج على الصوم، بل كانوا يشجعوننا على كل ما يثبت قوة العود والمرجلة، وكتبت أكثر من مرة عن فضيحتي عندما كنت صائما ونزلت الى النيل للعوم كما كان يفعل معظم الصائمين الذين كانوا يبقون في الماء من منتصف النهار حتى قبيل الغروب، ولم تفلح مياه النيل في مكافحة الجفاف في فمي، فغطست، وشفطت.. وأخذت كفايتي وطفوت، ثم خرجت من الماء وجلست على الشاطئ، وحاولت تمثيل دور الصائم المنهك وتمددت، وفجأة صار الماء يتدفق عبر فمي، وبدأت أحس بالراحة كلما انخفض منسوب الماء في بطني، ولم أنتبه للذين كانوا من حولي يضحكون ويتصايحون “أرمدان كبي”.. أي فاطر رمضان (لا يقبل اللسان النوبي بداية كلمة بحرف الراء، وبالتالي فبدلا من ان نقول رمدان نقول أرمدان، وأهون على النوبي شرب زيت خروع على الريق من نطق حرف الضاد، وتصير رقية إرقية).
كان أجمل ما في رمضان البدناوي، أنه كان يكفل لنا نحن الصغار حرية التجوال ليلا، بحيث نستطيع لعب الدكي (الشدة/ حرينا) والكود (شليل) والكدى (الهوكي وكنا نستخدم أعوادا من السنط كمضارب ونواة ثمرة الدوم ككرة)، ففي غير رمضان لم يكن واردا أن نلعب لساعات طوال ليلا بعيدا عن بيوتنا خوفا من الجن، فاجتياز أي مسافة تفصل بين الأحياء كان يعني المرور بإحدى قواعد الجن، فمثلا في حي فيدي حيث بيتنا كانت هناك مقار للجن في ركن المدرسة الجنوبية، وقبة حاجنتود (ولد حاج) وخلف منزل مريم ود سوركتي (داية المنطقة)، والأشجار المحيطة بحي سمون من الناحية الجنوبية، وبما ان الجن يخضعون للتكتيف في رمضان فقد كنا نمارس الصرمحة العابرة للأحياء حتى منتصف الليل، وكان الليل ينتصف في بدين في نحو التاسعة مساء، لأن الناس كانت تنام بعد الدجاج بدقائق معدودة عقب صلاة العشاء مباشرة.
ويا ما مقلبنا أهلنا بأن نقرع الصفيح في نحو العاشرة مساء ونوقظ القوم لتناول السحور، ولم يكن ذلك فقط من باب الشقاوة، بل لنضمن لأنفسنا نصيبا من الشعيرية والرز باللبن.
كل عام وأنتم بخير ويا ريت تأتون ببعض ذكريات رمضان الطريفة وما أكثرها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.