البعثة الأممية: مصيدة من؟ .. بين الاشتراطات السودانية والأجندات الخارجية

0 116

(1)

للأسف الشديد كشأن غالب تناولنا لقضايانا الوطنية الكبرى، انزلق النقاش

حول مسألة الدور الأممي في السودان، سواء من حيث الموقف المبدئي منه

أو طبيعته، تحت وطأة الصراع السياسي العدمي غير الراشد، والاستقطاب

الحاد، إلى جدل محموم غير منتج وسط دخان كثيف من المغالطات والاتهامات حجبت الرؤية عما يقتضيه من تناول موضوعي مسؤول، وكم كان مؤسفاً محاولة البعض تهييج العواطف باتهام مرسل للدكتور عبد الله حمدوك بالخيانة، وهي فرية لا تقوم على ساقين، ولا يقول بها عاقل، فلئن كان هو من ابتدر مقترح البعثة الأممية فقد أصبح لاحقاً قرار مشترك لترويكا الانتقال، بمكونيه العسكري والمدني وقوى الحرية والتغيير، وبالتالي لا يمكن تمييزه فرداً مطية لإلقاء اللوم عليه وحده.

كما لا يليق بمن يتصدون للخطاب العام أن يسمموا الفضاء السياسي بإثارة

أجواء الكراهية والضغينة والسباب في وقت ينتظر فيه الشعب السوداني بعد

ثورته المجيدة أن ترتفع طبقته السياسية إلى مستوى تطلعاته في العمل المؤسسي المسؤول لوضع البلاد على جادة طريق تغيير حقيقي تنهض به من كبواتها المتلاحقة على مدار عقود.

(2)

ما طرحه السيد رئيس الوزراء في مقترحه على الأمم المتحدة إرسال بعثة

سياسية لتسهم في تسهيل تنفيذ استحقاقات الفترة الانتقالية هي مسألة بُنيت على تقديرات سياسية لتجاوز تحديات المرحلة، فضلاً عن أنها ليست بدعاً سواء على صعيد التجربة السودانية أو في مناطق أخرى من العالم، ومثلما

يملك الدكتور حمدوك، بحكم مسؤوليته، الحق في إطلاق مبادرته هذه، فالحق كذلك مكفول للمواطنين السودانيين كافة أن يدلوا بآرائهم أو مواقفهم في هذه القضية التي تمس مصالحهم الوطنية بامتياز، اتفاقاً معها أو اعتراضاً عليها، لا يقتضي ذلك إلا أن يكون حواراً موضوعياً مبنياً على الحقائق والمعلومات، كما تحدث فعلاً لا كما يريد أن يتخيلها البعض، والقدرة على التشخيص السليم وتحليل المآلات عن معرفة وافية بالحيثيات والسياقات، وهي على أي حال قضية لا يصح الخوض فيها خبط عشواء بذهنية النقاشات المرتهنة لجدل الخصومات السياسية العمياء، ولا بإلقاء الاتهامات جزافاً عن جهالة.

(3)

على هذه الأرضية أواصل الكتابة فيما ابتدرته في المقال السابق من موقف

منتقد لهذه الخطوة، وأجد لزاماً عليّ في ظل حالة التراشق والاصطفاف الحالي تحريره من هوس التعليقات الجزافية، يستند إلى اعتراض مبدئي يتجاوز مجرد الجدل حول طبيعة البعثة المقترحة، وهو ما أرجو أن أبيّن حيثياته في سياق سلسلة المقالات هذه حول هذا الموضوع، فهو نتاج تشخيص، وتحليل ورأي ليس وليد اليوم، بل استمرار لموقف قديم راسخ لهذا القلم حيال رفض التدخلات الخارجية في الشأن السوداني بأنواعها شتى وفي أحوالها كافة، ومما سجله أرشيف الكاتب من مواقف رافضة حيال بعثة (يوناميس) في 2005، والبعثة الأفريقية (أونميس) في 2004،

والمختلطة مع الأمم المتحدة (يوناميد) في 2007، وغيرها من تدخلات

كان آخرها دور الاتحاد الأفريقي وإثيوبيا في المفاوضات بين الأطراف

السياسية السودانية عقب ثورة ديسمبر المجيدة الذي يرى فيها قدحاً في

المروءة الوطنية للطبقة السياسية السودانية أن تعجز بعد كل هذه التجربة

في إدراك التوافق بينها على مشروع وطني، وتستسهل في الوقت نفسه

الخضوع لوساطات خارجية صارت ديدناً لها وهي تتنقل من الارتهان لدور

خارجي إلى آخر بحثاً عن حلول لأزمتنا الوطنية دون مبرر سوى العجز الذاتي وفقر القيادة.

(4)

حسناً نعود لمواصلة ما انتهينا إليه في المقال السابق للسعي لفهم مجريات

الأمر من خلال طرح تساؤل ملحّ حول ماهية التطورات التي حدثت بشأن

مشروع البعثة الأممية المفترض أنها ستشكّل تحت البند السادس بناءً على

طلب الحكومة السودانية، على خلفية ورود إشارات منذرة في الموقف

الحكومي حيال مجمل ما يجري كشفها بيان مندوب السودان الدائم في الأمم

المتحدة أمام اجتماع مجلس الأمن الدولي الجمعة الماضية عند مناقشة

(التقرير المشترك حول مصير بعثة يوناميد والوجود اللاحق).

أول ما لفت النظر كان تأكيده على (التحسّن المطرد للأوضاع في

دارفور، وشروع الحكومة في وضع استراتيجية لحماية المدنيين، ومخاطبة

جذور النزاع، وتعزير حقوق الإنسان، وبناء سلام مستدام)، والتشديد على

أن الأولوية في ذلك (تقع على عاتق الحكومة السودانية التي تملك الرغبة

والقدرة للقيام بذلك)، ويجب أن نضع خطين هنا تحت مصطلح (حماية

المدنيين)، وأيضا تحت عبارة (مسؤولية الحكومة واستعدادها للقيام بهذه المهمة).

(5)

ترجمة الموقف الحكومي أعلاه أفصح عنه بوضوح التحفظ الذي ورد في

بيان المندوب الدائم واشتراطه بأن (هذه البعثة يجب أن تُنشأ بشكل شفاف

وتشاوري يضمن المِلكية الوطنية للبعثة وتكون وفقاً لمقتضيات الفصل السادس من الميثاق)، والتشديد على أن (أي نقاش حول الفصل السابع، أو نشر عناصر شرَطَية أو عسكرية وفقاً له، لن يكون مقبولاً لدى الحكومة السودانية)، وهو ما يعني عملياً أن تحقيق فكرة تشكيل البعثة نفسها بات على المحك.

(6)

وتفسير هذا الموقف الحكومي يكشف بوضوح، ما كان معروفاً للمتابعين

عن كثب لمشاورات بعض عواصم القرار في كواليس مجلس الأمن، أن

مسودة مشروع إنشاء البعثة السياسية المعنية المطروحة للتداول بين الدول

الأعضاء في مجلس الأمن بين يدي إقراره قبل نهاية شهر مايو، تستند في

واقع الأمر إلى البند السابع الذي يكفل لمجلس الأمن استخدام القوة في حل

النزاعات، وليس على البند السادس، الذي يقتصر تفويضه على الحلول

السلمية للنزاعات، وهو ما تطالب به الحكومة والتي يقوم دفاعها الأساس

عن مشروعية وجدوى طلبها لهذه البعثة بانه سينهي بذلك (وصاية) الأمر

الواقع المفروض بوجود بعثة يوناميد الحالية المستند إلى البند السابع منذ

العام 2007 ، وتنقلها إلى البند السادس وفق التفويض الذي تشترطه للقبول

بالبعثة، ولذلك فإن أي قبول بتمرير إنشاء البعثة تحت البند السابع وفق

مسودة القرار المطروحة حالياً للتداول، سيعني ضربة موجعة لحجة الحكومة ولصدقيتها في دواعي اللجوء لطلب نشر بعثة أممية وفق البند السادس.

(7)

في 18 مارس الماضي بثت وكالة (أسوشتيد برس) الأمريكية تقريراً من

الأمم المتحدة ذكرت فيه أنها اطلعت على مسودة مشروع قرار لتشكيل بعثة

سياسية لدعم السلام وبناء السلام، تعرف باسم (بعثة الأمم المتحدة السياسية

المتكاملة وبناء السلام في السودان).

(UNPPMS)

على أن تبدأ مهمتها في الأول من مايو لفترة أولية مدتها عام واحد، وأن

تتضمن نشر ما يصل إلى 2500 شرطي دولي وكتيبة واحدة لقوة رد

سريع – عادة ما بين 500 إلى 800 جندي – لحماية أفراد الأمم المتحدة

والمرافق والعاملين في المجال الإنساني. كما سيتم تفويض الشرطة والقوات (للمساعدة في خلق بيئة حمائية من خلال حماية المدنيين الذين يتعرضون أو يتعرضون لتهديد وشيك بالعنف الجسدي، خاصة في المناطق الساخنة من ولايات دارفور).

(8)

أثار ذلك التقرير عند نشره وتصدره لعناوين الصحف في الخرطوم حملة

انتقادات حادة للحكومة، مما حدا بالسفير البريطاني لدى الخرطوم السيد عرفان صديق إلى نشر سلسلة تغريدات في حسابة على تويتر، أكد فيها صحة التقرير المسرّب، وذكر أنه استند إلى مسودة مشروع قرار عكفت عليه بريطانيا وألمانيا، وقال (أريد أن أكون واضحاً، هذه المسودة المبكرة تعكس تفكير داخلي بريطاني – ألماني، ولم تتم مشاركتها مع الحكومة السودانية)، وحرص على تبرئة ساحتها من التواطؤ في تلك المشاورات بين لندن وبرلين، وأكد أن الخرطوم (ليس لديها إسهام أو أفكار بهذا الخصوص، ولذلك فإنه لا يمكن الادعاء بأنها تعكس رؤى الحكومة

السودانية، أو تحظى بدعمها). بيد أن الأكثر أهمية في تغريدات السفير

عرفان حينها تحذيره بأنه(إذا تم تعديل هذا القرار بصورة جوهرية نتيجة

لهذا التسريب، سيموت الناس في دارفور، ومن يجب أن يُحمى بواسطة

الأمم المتحدة، سنواصل العمل بكل ما أوتينا من قدرة كعضو في مجلس

الأمن على دعم حماية المدنيين في دارفور).

(8)

إذن وفقاً لهذه التغريدات المنشورة قبل أربعين يوماً، فمن الواضح أنه لم يحصل تغيير جوهري في مسودة القرار التي كشفتها (أسوشيتد برس)، وأن

الضغوط البريطانية والألمانية أفلحت، على الأقل حتى هذه المرحلة من

المشاورات، في جعل مشروع القرار المطروح للتداول يتضمن نشر (قوة

مسلحة) ذات (تفويض بحماية المدنيين)، وهو ما يعني أنه بالضرورة تحت

مظلة البند السابع، وأيضاً ما يؤكده تحفظ الحكومة رسمياً عليه في بيان

المندوب الدائم، وإعلانها بوضوح أنها لن تقبل بالقرار ما دام متضمناً نشر

قوة مسلحة.

(9)

وهو تطور شديد الأهمية يطرح تساؤلات أخرى ملحة، هل تعرضت

الحكومة لـ(استدراج) والوقوع غفلة في مصيدة أجندات خارجية، شجعتها

على المبادرة بطلب إنشاء البعثة أممية بمظنة أنها ستكون تحت البند السادس بغرض الحصول على دعوة رسمية من الحكومة السودانية لمجلس الأمن لنشر بعثة أممية، وما أن تمّ ذلك بالفعل ودارت عجلة ترتيباتها، فإذا برعاة الفكرة يقلبون لها ظهر المجن، وبدلاً من الوفاء بتعهدهم، أو ما أوحوا به، بان مهمة البعثة ستكون تحت البند السادس، فإذا هم يخلفون الوعد ويورطونها بتقديم مشروع قرار تحت البند السابع في محاولة لفرض الأمر الواقع.

(10)

ووفقاً لهذه الحيثيات فإن منتقدي الحكومة مدينون لها بالتقدير، وليس المسارعة إلى الإدانة، ذلك أنها اتخذت موقفاً قوياً وواضحاً ومعلناً أمام مجلس الأمن الدولي رافضاً للقبول بمشروع قرار المطروح حالياً بإنشاء بعثة تحت البند السابع الذي يكفل لها تدخلاً عسكرياً في البلاد تحت ذريعة (حماية المدنيين)، كما جدّدت تمسكها بالبند السادس كأساس للقرار. وهو موقف يُحسب لها بلا شك ما دامت متمسكة به وملتزمة بمقتضاه.

(11)

ولكن يبقى السؤال الكبير: هل تستطيع الحكومة الصمود في وجه الضغوط

الدولية التي ستفرضها عواصم القرار عليها، سواء بعصا أو بجزرة، من

أجل تغيير رأيها والقبول بمشروع القرار بصيغته الحالية، لا سيما في ظل

الصعوبات الجمة والتعقيدات المتزايدة التي تنوء بحملها في إدارة البلاد؟، وما

جدوى هذه المغامرة ابتداءً؟ هذا ما نحاول الإجابة عليه في المقال القادم
بإذن الله

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.