النموذج التنموي الإثيوبي

0 163
كتب: النور حمد
لكي نعرف مدى قصورنا الذاتي كأمة، ينبغي علينا أن ننظر إلى إنجازات جيراننا ممن تماثل تجربتهم وأحوالهم الاقتصادية أحوالنا. لقد اتيحت لي في السنوات العشر الماضية زيارات عديدة لأربعة من أقطار الجوار، هي: إثيوبيا، وكينيا، وتنزانيا، ويوغندا. في كل مرة كنت أزور فيها إثيوبيا وكينيا، على سبيل المثال، أرى تطورًا واضحًا في البنى التحتية، شمل المطارات، والطرق السريعة، والسكك الحديدية. وهذا لا يتعدى ما تلتقطه عينُ زائرٍ عابر، لكنه، دون شك، يدل على تطورات على جبهاتٍ اقتصادية عديدة. أيضًا، أول ما تشاهده العين في هذه البلدان هو نظافة عواصمها، وقد كنا قبل أربعة عقود من الزمان أفضل منهم حالاً في ذلك. لقد ورثنا انضباطًا إداريًا من البريطانيين، لكنا لم نحافظ عليه، فتراجعت أحوالنا، تدريجيًا، حتى وصلنا، في عهد الإنقاذ الكالح، مرحلة الانهيار الخدمي الشامل. وتكمن المشكلة في منظومة قيمنا المتنافرة، غير المتسقة داخل بنيتها، وغير المتناغمة مع مقتضيات الحداثة.
شاهدت في اليومين الماضيين تقارير تلفزيونية قصيرة، مبهرة، أعدتها مؤسسة غربية،، عن النهضة الصناعية في إثيوبيا، تصور القفزات التنموية الكبيرة التي جرت هناك. أنشأت إثيوبيا بمعاونة الصينيين، في العقد الأخير إثني عشر مجمَّعًا صناعيًا ضخمًا، صديقًا للبيئة، على أحدث المواصفات. بدأت هذه المجمعات في توظيف اليد العاملة الإثيوبية بما يقدر بمئات الآلاف. وقد جرى توزيع هذه المجمعات على ست مدن إثيوبية رئيسة، في مختلف أقاليم إثيوبيا. يدل هذا النهج أن إثيوبيا بدأت تسلك نفس الطريق الذي سلكته دول النمور الآسيوية، قبل بضع عقود، وأحدثت به اختراقًا لافتًا في نقل التكنولوجيا والخبرة الصناعية. الآن أخذت شركات كبرى أمريكية، وصينية، وهندية، وبلجيكية، وفرنسية، وغيرها، في نقل أعمالها في صناعة الأقمشة والملبوسات، من شرق آسيا إلى المجمع الصناعي الضخم في مدينة أواسا الإثيوبية. يقول التقرير إن السبب وراء ذلك هو قلة التعقيدات البيروقراطية في إثيوبيا، والأيدي العاملة المدربة، والخدمات المتكاملة في هذه المجمعات؛ كالبنوك، وتصل هذه الخدمات داخل هذه المجمعات حد منح تأشيرات الدخول والإقامات. ذكر مستثمر هندي، جرت مقابلته في التقرير، أن إثيوبيا أقرب مسافةً إلى السوق الأمريكية، وبطبيعة الحال، إلى السوق الأفريقية. يتوقع أن تدر هذه النهضة الصناعية الكبيرة على إثيوبيا، بلايين الدولارات، سنويا.
عرض أحد التقارير صناعة الأحذية والألبسة الجلدية التي ازدهرت بشدة في إثيوبيا، التي تملك حوالي 52 مليون رأس من الماشية. ورغم أن أعداد الماشية في السودان لا تقل عن ذلك، إلا أن الإثيوبيين انتبهوا منذ البداية إلى القيمة المضافة فاتجهوا إلى تصنيع الجلود. هذا في حين بقينا نحن نصدر ها لعشرات العقود، مُتَّبعين سياسة تصدير الخام الاستعمارية. الآن غزت الأحذية والألبسة الجلدية الإثيوبية الفاخرة، الأسواق الأمريكية، وسوف تتبعها الألبسة الأخرى. هذا بخلاف المنتجات الأخرى كالبن. أما نحن فلم نحقق، على مدى قرن كامل، نجاحًا يذكر في صناعة النسيج والملبوسات، رغم أننا من منتجي أجود أنواع القطن. العقدة الرئيسة التي ستعطل انطلاقنا الآن، هي سيطرة العسكريين على مفاصل الاقتصاد، وعلى السياسية الخارجية. فالعالم لن يفتح لنا أي فرصة لنهضة كبيرة ما لم يتراجع العسكريون إلى موقعهم الطبيعي في بنية الدولة، كغيرهم من المؤسسات العسكرية. بغير ذلك، لن يرى العالم في نظام حكمنا سوى امتداد للإنقاذ. وسيكون كل عملٍ نعمله مجرد حرثٍ في البحر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.