مستقبل مبادرة القرن الإفريقي وعملية التكامل الإقليمي

0 203

رصد ــ السودان نت

 

جدَّدت تطورات المشهد الإقليمي في منطقة القرن الإفريقي منذ يوليو 2018م الآمال حول مستقبل مغاير عما شهدته دول المنطقة خلال العقود الماضية؛ من خلال رغبة إقليمية في بناء كيان إقليمي، وخلق حالة من التكامل الإقليمي السياسي والاقتصادي، وتجاوز ما يواجه المنطقة من تحديات ومعوقات، وهو ما ينعكس بدوره إيجابيًّا على مستقبل القرن الإفريقي خلال المرحلة المقبلة.

أولًا- طبيعة المبادرة في ضوء السياق الإقليمي

أطلق زعماء خمس دول في القرن الإفريقي (إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي والصومال وكينيا) مبادرة القرن الإفريقي في عام 2019م لصياغة تعاون اقتصادي أكثر قوة وترابطًا بينها؛ يساندها في ذلك تحسُّن المناخ السياسي في المنطقة. وذلك خلال الاجتماعات السنوية لمجموعة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي عُقِدَتْ في العاصمة الأمريكية واشنطن. بحيث وافقت دول القرن الإفريقي على المشروعات والبرامج ذات الأولوية التي تشكل ركيزةً يجري تطويرها بواسطة الدول بدعم من بنك التنمية الإفريقي والاتحاد الأوروبي والبنك الدولي.

وتستهدف المبادرة العديد من الأهداف؛ من أبرزها: خلق فرص عمل للشباب، وتوسيع البنية التحتية في المنطقة، وتعزيز حجم الناتج المحلي الإجمالي لدول القرن الإفريقي بما يحقق التكامل الاقتصادي. وقد ركّز خماسي القرن الإفريقي على أربع أولويات تتمثل في تحسين شبكة البنية التحتية الإقليمية، وتشجيع التكامل الاقتصادي والتجاري، وبناء القدرة على التكيُّف، وتعزيز تنمية رأس المال البشري.

وتتوالى الاجتماعات بين مسؤولي الدول الخمس منذ إطلاق المبادرة؛ حيث اجتمع وزراء مالية الخماسي بجيبوتي في فبراير 2020م؛ بهدف مناقشة سُبل تعزيز التكامل الاقتصادي والتعاون الإقليمي في منطقة القرن الإفريقي. وناقش الوزراء تقييم أنشطة التجارة والاستثمار المشتركة التي تم تنفيذها منذ الاجتماع الأول. كما ناقشوا سُبُل تمويل المبادرة التي تحتاج إلى حوالي 15 مليار دولار لتنفيذها.

ولم تكن المبادرة الراهنة لدول القرن الإفريقي هي الأولى خلال العقد الماضي، بل سبقتها مبادرة دولية أطلقتها عدد من المؤسسات الدولية بهدف تعزيز التعاون الإقليمي في القرن الإفريقي؛ فقد بادرت عدد من المؤسسات الإنمائية الدولية والإقليمية بمبادرة تجاه منطقة القرن الإفريقي في أكتوبر 2014م شملت ثماني دول هي إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي والصومال وكينيا والسودان الشمالي وجنوب السودان وأوغندا؛ وذلك من خلال تقديم دعم سياسي واقتصادي يتجاوز 8 مليارات دولار خلال السنوات التالية.

ومن أبرز تلك المؤسسات: مجموعة البنك الدولي التي تعهدت بتمويل بقيمة 1.8 مليار دولار للأنشطة العابرة للحدود في المنطقة؛ من أجل تعزيز النمو الاقتصادي والفرص، والحد من الفقر، وتحفيز النشاطات التجارية. ومنظمة الأمم المتحدة التي تسعى لضمان اتباع نهج متماسك بغية تحقيق السلام والأمن والتنمية في القرن الإفريقي. وهدفت هذه المبادرة إلى السعي نحو مواجهة براثن موجات الجفاف وانعدام الأمن الغذائي وانعدام الأمن المائي والصراعات الداخلية والإقليمية من خلال بناء أمن إقليمي وصنع السلام وتحفيز دول المنطقة لتعزيز التعاون الإقليمي. كما تعهد الاتحاد الأوروبي بتقديم تمويل بقيمة 3.7 مليارات دولار حتى عام 2020م. فيما أعلن البنك الإفريقي للتنمية تعهده بتقديم نحو 1.8 مليار دولار على مدار ثلاث سنوات في الفترة بين عامي 2014 و2017م. بينما التزم البنك الإسلامي للتنمية بتقديم تمويل يصل إلى مليار دولار إلى دول جيبوتي والصومال والسودان وأوغندا.

وقبل ذلك برزت مبادرتان تم طرحهما في تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الجديدة، وهما مبادرة القرن الإفريقي الكبير الذي طرحته الولايات المتحدة الأمريكية في عام 1994م. والمؤتمر الذي عقد في ولاية فلوريدا الأمريكية في عام 2002م، ونظمه عدد من المراكز البحثية الأمريكية والجامعات الأمريكية التي بحثت إمكانية إقامة كونفدرالية القرن الإفريقي تتكون مبدئيًّا من إثيوبيا وإريتريا والصومال وجيبوتي مع قابلية ضم أعضاء جدد في المستقبل.

وقد مَثَّل اتفاق السلام الذي وقَّعته إثيوبيا وإريتريا في يوليو 2018م بمثابة نقطة التحوُّل التي طرأت على المشهد السياسي الإقليمي في منطقة القرن الإفريقي، بحيث أسهم في عودة العلاقات الطبيعية بين الجانبين الإثيوبي والإريتري بعد عقدين من الحرب والتوترات، كما فتح الباب أمام مزيد من التفاهمات بين دول المنطقة في بعض الملفات العالقة بينها -باستثناء نزاع جيبوتي وإريتريا على منطقة دميرة-، ناهيك عن إنهاء العزلة الإقليمية التي عانت منها إريتريا على مدار السنوات الماضية. الأمر الذي جعل الطريق ممهدًا أمام تشكل بعض التحالفات الإقليمية، وإطلاق بعض المبادرات الإقليمية، والترويج لفكرة التكامل الإقليمي في ظل مشهد إقليمي هادئ نسبيًّا.

في ذات السياق، لا يمكن إغفال الدور الإيجابي الذي لعبته إثيوبيا -بعد صعود آبي أحمد، رئيس الوزراء الإثيوبي، إلى السلطة- في هذه التطورات التي شهدتها منطقة القرن الإفريقي خلال العامين الأخيرين، والتحركات الإيجابية لبعض الدول الإقليمية مثل الإمارات والسعودية التي كان لها دور محوريّ في توقيع اتفاق السلام الإقليمي الذي عزَّز من الأمن والاستقرار الإقليمي في القرن الإفريقي.

وفي ضوء الترحيب الإقليمي والدولي بالمصالحة الإقليمية في منطقة القرن الإفريقي؛ أصبحنا أمام مرحلة جديدة تشهد فيها المنطقة تحولات استراتيجية بدت مبشّرة لتأسيس حقبة زمنية جديدة تتسم بالمزيد من التفاعل والاندماج بين دول القرن الإفريقي في المجالات السياسية والاقتصادية والأمنية. وبحيث صارت أكثر جذبًا للعديد من القوى الدولية الراغبة في النفوذ والهيمنة، وانفتاحًا على المزيد من الاستثمارات الأجنبية.

ثانيًا- أبرز مشروعات المبادرة في المنطقة:

اشتملت المبادرة التي وقَّع عليها خماسي القرن الإفريقي في 2018م على عددٍ من المشروعات الإقليمية تندرج تحت أربعة قطاعات أساسية؛ أولاها: مشروع الممرات الاقتصادية بقيمة 9 مليارات دولار، ويتكون من 4 ممرات تغطي مساحة 6 آلاف كيلومتر تتمثل في ممر (مقديشو-كسمايو-لامو) الذي يربط بين الصومال وكينيا، وممر (مقديشو-بوصاصو-بربرة) في الصومال، وممر (بربرة-جيبوتي) الذي يربط بين الصومال وجيبوتي، وممر (كسمايو-ليبوي-جاريسا) الذي يربط بين الصومال وإثيوبيا وكينيا.

وثانيها: مشروع البنية التحتية للكهرباء بقيمة 1.84 مليار دولار، والذي يستهدف بناء العمود الفقري للشبكة الكهربائية الصومالية، وربط خماسي القرن الإفريقي بعضها ببعض كهربائيًّا، ودعم تجارة الطاقة في القرن الإفريقي، وبناء موانئ لتصدير النفط.

وثالثها: خلق سوق رقمي موحد بقيمة 1.7 مليار دولار، وخلق سوق بيانات إقليمي موحد، وإنشاء نظام دفع إلكتروني عابر للحدود لتسهيل الصفقات التجارية، وإنشاء أنظمة خدمات حكومات إلكترونية وبنية تحتية للبيانات الرقمية.

ورابعها: تشكيل نظام متكامل للتجارة والاقتصاد بين الدول الخمس؛ بحيث تستهدف المبادرة تأسيس 4 موانئ، وإنشاء أنظمة جمارك ذات معايير وجودة إلكترونية ومنسقة بين الدول الخمس، وإنشاء 13 نقطة عبور حدودية بينها، وخلق برنامج تأمين للثروة الحيوانية في المنطقة بقيمة 1.3 مليار دولار و1.6 مليار دولار من القطاع الخاص، فضلًا عن تعزيز قُدُرات العنصر البشري بقيمة 1.5 مليار دولار من خلال تطوير المهارات وتمكين الشباب والمرأة.

وقد برز خلال الفترة الأخيرة عدد من المشروعات في القرن الإفريقي، وهي مشروعات ذات طابع تكاملي بهدف تحقيق جملة من المزايا على المستوى الإقليمي، من أبرزها التكامل الاقتصادي بين دول المنطقة، وتخفيض مستوى التضخم والبطالة بين الشباب، وخلق العديد من فرص العمل الواعدة، أضف إلى ذلك جذب المزيد من المشروعات الاستثمارية، وتعزيز أرقام التجارة البينية بين الدول الخمس.

وتتمثل أبرز تلك المشروعات الإقليمية في:

– مشروع “لابسيت” (خط أنابيب جوبا-لامو): فقد اجتمع رؤساء دول كينيا وإثيوبيا وجنوب السودان في مارس 2012م في مدينة لامو الكينية المطلة على المحيط الهندي؛ بهدف إطلاق مشروع إنشاء ميناء وخط أنابيب نفط يمتد من جوبا إلى أديس أبابا عبر نيروبي. وهو مشروع يهدف إلى إنشاء خط أنابيب نفطية يربط وسط وشرق إفريقيا بمنطقتي الغرب والجنوب عبر ميناء لامو الكيني. كما يتضمن المشروع بناء خط سكك حديدية وطريق سريع ومصفاة لتحويل كينيا وجنوب السودان وإثيوبيا إلى دول متوسطة الدخل خلال العقدين القادمين. وتبلغ تكلفة هذا المشروع نحو 23 مليار دولار تدفعها حكومات إثيوبيا وكينيا وجنوب السودان وعدد من المانحين الدوليين. وتجدر الإشارة إلى أن هذا المشروع يأتي في إطار رؤية كينيا 2030م حول تطوير البنية التحتية لمدينة لامو، وأن يصبح ميناؤها المطل على المحيط الهندي أحد أكبر الموانئ البحرية في شرق إفريقيا.

ويبدو الهدف الأساسي من هذا المشروع هو فك الارتباط بين جنوب السودان وإثيوبيا بالموانئ البحرية العربية المطلة على البحر الأحمر وعدم الاعتماد عليها بشكل رئيسي. فهو يوفر لجنوب السودان ممرًا بحريًّا لتجارتها النفطية بعيدًا عن ميناء بورتسودان، كما يوفّر لإثيوبيا امتيازات من خلال استخدام ميناء لامو ليكون بديلًا عن الموانئ الجيبوتية والصومالية والسودانية.

– مشروعات ربط الموانئ الإقليمية: تخشى إثيوبيا من كونها دولة حبيسة تعتمد بشكل أساسي (بنسبة تفوق 95%) على ميناء جيبوتي في الاتصال بالعالم الخارجي. وقد سعى آبي أحمد منذ توليه السلطة في أبريل 2018م إلى تعزيز ارتباط إثيوبيا بمعظم الموانئ البحرية في دول الجوار الإقليمي بهدف تعدُّد الخيارات أمامها. لذلك، شرعت إثيوبيا في توقيع اتفاق مع الصومال في عام 2018م من شأنه الاستثمار الإثيوبي في 4 موانئ صومالية هي مقديشو وهوبيو وبربرة وكسمايو. بالإضافة إلى تعزيز التعاون مع موانئ لامو في كينيا وبورتسودان في السودان الشمالي. فضلًا عن شروعها في بناء شبكات طرق رئيسية تجارية تربط تلك الموانئ بإثيوبيا مثل الطريق الذي يربط بين ميناء بربرة بأرض الصومال وإثيوبيا. والطريق بين ميناء كسمايو في جنوب الصومال وإثيوبيا. والطريق بين ميناء هوبيو بوسط الصومال بإقليم الصومال الغربي في شرق إثيوبيا.

– مشروعات الربط الكهربائي: مثل مشروع طريق إيثيو-كينيا الذي يستهدف بناء طريق للكهرباء بين إثيوبيا وكينيا. ويبلغ طوله حوالي 1068 كيلومتر من التيار المباشر للجهد العالي بسعة نقل طاقة تبلغ حتى 2000 ميجاوات. ويقدر إجمالي الاستثمار في المشروع بحوالي 1.26 مليار دولار بواقع عدة قروض من البنك الدولي بقيمة 684 مليون دولار، ومن بنك التنمية الإفريقي بقيمة 338 مليون دولار، ومن وكالة التنمية الفرنسية بقيمة 118 مليون دولار. بينما تموّل الحكومتان الإثيوبية والكينية المشروع بقيمة 32 مليون دولار، و88 مليون دولار على التوالي.

ويأتي مشروع سد النهضة الإثيوبي الذي تدعي أديس أبابا أنها شرعت في بنائه لتوليد الطاقة الكهربائية 6000 ميجا وات، وتروّج أنها ستمد دول الجوار الجغرافي بالكهرباء مثل جيبوتي وكينيا والسودان الشمالي بهدف ضمان الدعم الإقليمي للمشروع الذي يواجه معارضة شديدة من الدولة المصرية كونه يؤثر سلبًا على الأمن القومي المائي المصري.

– مشروع طريق الحرير الصيني: حيث تسعى الصين من خلال مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها في عام 2013م إلى تطوير عدد من موانئ القرن الإفريقي المطلة على البحر الأحمر والمحيط الهندي مثل ميناء جيبوتي وميناء ممباسا الكيني. أضف إلى ذلك مشروعات البنية التحتية بين دول المنطقة مثل مشروع خط السكك الحديدية بين أديس أبابا وجيبوتي. وذلك بهدف تعزيز شبكة البنية التحتية في منطقة القرن الإفريقي التي تسهل من نقل المنتجات والبضائع الصينية والإفريقية إلى المياه الدافئة لا سيما النفط الإفريقي. وهو ما دفع بكين إلى إنشاء خط بحري تصل من خلاله الصين إلى آبار النفط والغاز في منطقة أوجادين بشرق إثيوبيا عبر ميناء هوبيو الصومالي.

ثالثًا- المبادرة في المنظور المصلحي لدول المنطقة:

يُعدّ توقيت إطلاق مبادرة القرن الإفريقي مثاليًّا؛ نظرًا لما تشهده المنطقة من تحولات استراتيجية طرأت عليها منذ توقيع اتفاق السلام الإقليمي في يوليو 2018م. ويدعمه في نفس الوقت بعض الملامح الإيجابية الأخرى؛ فعلى الصعيد الاقتصادي، حقَّقت البلدان الخمس معدلات نمو لافتة خلال السنوات القليلة الماضية باستثناء الصومال، بحيث تجاوزت متوسط النمو للقارة الإفريقية خلال عام 2018م الذي بلغ نحو 3.5%. ففي إثيوبيا تحقق معدل نمو اقتصادي بنسبة 7.4%، وفي كينيا بنسبة 5.9%، وفي جيبوتي بنسبة 5.6%، بينما انخفض معدل النمو الاقتصادي في الصومال ليسجل 2.9%. وهو ما يمكن أن يشهد طفرة في حالة تنفيذ المبادرة وما تنطوي عليه من مشروعات اقتصادية وتنموية واستثمارات في مختلف المجالات في المنطقة.

كما أن الموقع الجغرافي لمنطقة القرن الإفريقي التي تتميز بإطلالتها على البحر الأحمر والخليج العربي وخليج عدن والمحيط الهندي جعلها تحظى بأهمية استراتيجية كبرى على الصعيدين الإقليمي والدولي. ومن الممكن تسخيرها من أجل تعزيز التكامل وخلق عصر جديد من التنمية والاستقرار في القرن الإفريقي.

أضف إلى ذلك أهمية مشروع التكامل الاقتصادي في المنطقة، وما يمكن أن يتم من خلاله بشأن المنافسة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، والاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية في دول القرن الإفريقي، وبلورة وحدة اقتصادية إقليمية قادرة على البقاء والاستمرار بعد الجدل حول جدوى دور منظمة إيجاد IGAD في تحقيق تطلعات شعوب المنطقة. فضلًا عن تعزيز مكانة الدول الخمس على المستويين القاري والدولي، وتعظيم قدراتها التفاوضية ككيان إقليمي متّحد مع المؤسسات والقوى الدولية والإقليمية.

إلا أنه في ذات الوقت، تتباين مصالح الدول الخمس المنخرطة من خلال تلك المبادرة الإقليمية بين المكسب والخسارة وفقًا لمنظور مصالحها الاستراتيجية وطموحها الإقليمي في المنطقة.

تبدو إثيوبيا أكبر المستفيدين من إطلاق هذه المبادرة، لما ينتظرها من مكاسب تبدو أكثر من نظيراتها في المنطقة بما يتناسب مع الطموح الإقليمي للإدارة الجديدة بقيادة آبي أحمد، والثقل السياسي والاقتصادي لإثيوبيا في شرق إفريقيا. فالمبادرة تسمح لأديس أبابا أن تستفيد من كافة الموانئ البحرية في المنطقة والمطلة على البحر الأحمر والمحيط الهندي، وهو ما يبدّد المخاوف الإثيوبية بشأن كونها دولة حبيسة، ويعزز من قدرتها على تنويع خياراتها في هذا الصدد. كما تبدو بمثابة حلقة وصل ترتبط من خلالها اقتصادات دول المنطقة بالاقتصاد الإثيوبي الأقوى نسبيًّا بالمقارنة مع الدول الأربع الأخرى، وهو ما يعزّز من الدور الإقليمي الإثيوبي في المستقبل. وتسمح هذه المبادرة أيضًا بضمان الاحتواء الإثيوبي لإريتريا خوفًا من تجدد التوترات بين الطرفين. وللصومال بهدف عدم قيام دولة صومالية قوية يبرز دورها الإقليمي وتطالب بالسيادة الصومالية على الإقليم الصومالي “أوجادين” في مرحلة مقبلة مما يهدد الدور الإقليمي لإثيوبيا في المنطقة. وكذلك الأمر بالنسبة لكينيا لضمان احتواء الطموح الإقليمي الكيني في شرق إفريقيا.

فيما تمثل هذه المبادرة فرصة جيدة للجانب الإثيوبي بالمضي قدمًا نحو تأسيس قاعدة بحرية إثيوبية على البحر الأحمر بعدما تعهدت فرنسا بتقديم سبل المساعدة إلى أديس أبابا في هذا الشأن. فهناك بعض التقارير التي كشفت عن تفكير أديس أبابا في بناء قاعدتها البحرية في أكثر من دولة مثل إريتريا والصومال وكينيا، فقد نقل موقع “بلومبرج” عن المدير التنفيذي لمؤسسة خدمات النقل والإمداد الإثيوبية بأن إثيوبيا ستبني قاعدتها في كينيا، كجزء من المشروع الإقليمي المشترك بين إثيوبيا وكينيا وجنوب السودان -لابسيت- الذي يستهدف تطوير ميناء لامو الكيني المطل على المحيط الهندي. إلا أن وزير الإعلام الإثيوبي قد نفى ذلك دون أن يستبعد إمكانية حدوثه.

كما تبدو أهداف تلك المبادرة الإقليمية متناسقة مع ما ترنو إليه إثيوبيا خلال الفترة المقبلة، وهو ما كشفه خطاب رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في أكثر من مناسبة. ففي 30 مارس 2019م أشار إلى أن تحقيق التكامل الإقليمي في شرق إفريقيا وفي القرن الإفريقي سيظل على رأس جدول أعمال إثيوبيا. وأنه سيعمل مع دول القرن الإفريقي من أجل ضمان السلام والاستقرار وتحقيق التكامل الاقتصادي. وخلال لقائه مع الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو في مقديشو في 2018م أوضح “أن الهدف المشترك هو استراتيجية شاملة لتعزيز الاستقرار الإقليمي في المنطقة. ويجب أن نتطلع بروح القيادة الجديدة والحدود الجديدة”، مؤكدًا “أن الحدود الجديدة لمنطقتنا يجب أن تكون تكاملًا إقليميًّا أوثق وأقوى؛ حيث تكون العقول مفتوحة للأفكار، والأسواق مفتوحة للتجارة”.

أما بالنسبة لإريتريا، فإن هذه المبادرة تمثل استمرارًا لحالة فك العزلة الإقليمية والدولية التي عانت منها إريتريا بعد عقود من العقوبات الدولية والأممية عليها بعد اتهامات بدورها السلبي في تهديد استقرار وأمن منطقة القرن الإفريقي، والتي أثرت على المكانة الإقليمية للدولة الإريترية والأوضاع الداخلية التي تشهد مزيدًا من التعقيد والتراجع على كافة المستويات؛ حيث تسمح لها بالانفتاح على المحافل الإقليمية التي غابت عنها منذ أكثر من عقد مضى. كما يفتح الباب أمام التعاون مع العديد من القوى الدولية والإقليمية في مختلف المجالات، وتدفق المزيد من الاستثمارات الأجنبية إلى الداخل لا سيما في مجال الموانئ البحرية الإريترية والتعدين.

ومن جانب الصومال، تحقق مبادرة القرن الإفريقي عددًا من المكاسب تتمثل أبرزها في التخفيف من حدة التدخلات الإثيوبية في الشأن الصومالي خلال السنوات الأخيرة، وإن كان الأمر يبدو صعبًا على المستويين الاقتصادي والأمني. كما أن مقديشو يمكنها -من خلال المبادرة- الاستغلال الأمثل لمواردها الاقتصادية، وتحقيق عائد يسهم في إنعاش الاقتصاد الصومالي المتراجع. وربما يسهم هذا التكتل الإقليمي في التحالف للقضاء على مخاطر الإرهاب المتمثل في تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، وحركة شباب المجاهدين في الصومال التي تهدّد بعملياتها الداخل الصومالي وبعض دول الجوار الإقليمي. الأمر الذي يمكّن الحكومة الصومالية من السعي نحو إعادة بناء مؤسسات الدولة الوطنية، وتعزيز مكانتها الإقليمية في المنطقة.

لكن في نفس الوقت، تبدو تلك المكاسب للدولة الصومالية مرهونة بتغيير النوايا الإثيوبية والكينية اللتين تتشاركان في ضرورة استمرار تردّي الأوضاع في الصومال على كافة المستويات حتى لا تقوم دولة قوية تنازعهما الزعامة الإقليمية مستقبلًا. والمساندة الدولية للدول الخمس في تنفيذ المبادرة، لا سيما تقديم الدعم للصومال خاصة أنها تشهد تراجعًا على الصعيدين الأمني والاقتصادي خلال السنوات الأخيرة.

أما بالنسبة لجيبوتي، فهي لديها شعور بالقلق منذ انطلاق عملية السلام الإقليمي بين إثيوبيا وإريتريا في 2018م، والتقارب الذي شهدته العلاقات الإريترية-الإثيوبية والإريترية-الصومالية بأن يخلق هذا التقارب تحالفًا ثلاثيًا يمكنه أن يؤثر على مصالحها في المنطقة، ويقف ضدها لصالح الجانب الإريتري، خاصة أن النزاعات الحدودية لا تزال مستمرة بينها وبين إريتريا بخصوص السيادة على جزيرة “دميرة” الاستراتيجية. لذلك، من المحتمل ألا تسهم جيبوتي بقوة وبفعالية في تحقيق هذا التكتل الخماسي ما لم تصل إلى حلّ في قضية سيادة جزيرة دميرة مع إريتريا. وهو ما يمثل أحد المعوقات أمام التكامل الإقليمي في القرن الإفريقي.

فيما تبدو كينيا منفتحة على مثل هذه المبادرات؛ نظرًا لما تستهدفه من زيادة ثقلها السياسي في المنطقة، وفي سبيل تعزيز قدراتها الاقتصادية وفتح آفاق جديدة للاقتصاد الكيني، واستغلال موانئها البحرية في أن تكون معبرًا للنفط في شرق إفريقيا، فضلًا عن جذب ومضاعفة الاستثمارات الإقليمية والدولية. ناهيك عن بحثها الدائم عن المكانة الإقليمية الرائدة في شرق إفريقيا والتي تقف أديس أبابا عقبة أمام تحقيقها وهو ما يخلق تحديًا وجوديًّا أمام التكامل الإقليمي في المنطقة.

رابعًا- فرص وتحديات تنفيذ المبادرة

ثمة بعض الفرص والتحديات التي تواجه مبادرة القرن الإفريقي الساعية إلى تحقيق قدر من التكامل الإقليمي في المنطقة.

1- فرص تنفيذ المبادرة:

– التطورات الإيجابية في المنطقة: حيث تعد التطورات التي تشهدها منطقة القرن الإفريقي منذ يوليو 2018م بمثابة دافع قوي لتحقيق خطوات متقدمة نحو تنفيذ المبادرة الإقليمية الرامية إلى تحقيق التكامل الاقتصادي الإقليمي بين دولها الخمس، والتي يمكن أن ينضم إليها أعضاء جدد في المستقبل.

– الإرادة الإقليمية: فهذا التوافق الإقليمي النابع من تحسين العلاقات البينية بين دول القرن الإفريقي يمكن أن يلعب دورًا محوريًّا في اتخاذ المزيد من الإجراءات لتحويل المنطقة إلى كيان اقتصادي إقليمي تتصاعد فيه معدلات النمو الاقتصادي والتجارة البينية، ويكون جاذبًا للاستثمارات الأجنبية بما ينعكس على الأوضاع الاقتصادية للدول الأعضاء.

– الاهتمام الدولي بالمنطقة: حيث يمكن استغلال حالة الترحيب الدولي بما تشهده المنطقة من تحولات استراتيجية كان لها أكبر الأثر على الاستقرار والأمن الإقليمي في القرن الإفريقي في طلب المساندة والدعم المادي لتمويل المبادرة، خاصةً أن هناك اهتمامًا ملحوظًا مِن قِبَل القوى الدولية تجاه القرن الإفريقي لاعتبارات جيوسياسية واقتصادية وأمنية.

– النماذج الإقليمية والدولية: حيث إن نجاح -ولو نسبيًّا- بعض نماذج التكتلات الاقتصادية سواء على الصعيد الإقليمي أو الدولي مثل تكتل الإيكواس في غرب إفريقيا، والاتحاد الأوروبي يمكن أن يمثّل نموذجًا يُحتذى به مِن قِبَل الدول الخمس في تنفيذ مبادرتهم الإقليمية الساعية إلى تحقيق التعاون والتكامل الإقليمي.

2- تحديات تنفيذ المبادرة:

– التداعيات المحتملة لوباء كوفيد-19: تثير التوقعات بشأن مستقبل القارة الإفريقية في ضوء انتشار وباء كوفيد-19 المزيد من القلق في ضوء الخسائر الاقتصادية التي شهدتها الاقتصادات الإفريقية، واحتمالية تراجع الاستثمارات الدولية والانكفاء الدولي على الداخل خلال المرحلة المقبلة، وهو ما يهدّد بتأخير وربما إلغاء المبادرة الإقليمية في القرن الإفريقي، خاصة أن دول القرن الإفريقي تواجه إلى جانب تفشّي وباء كوفيد-19 -الذي تسبَّب في ركود اقتصادي ملحوظ- بعض المعوقات الأخرى؛ منها المجاعة والفيضانات، وهجمات الجراد الصحراوي بما يهدد بتراجع كبير في اقتصادات المنطقة.

– النزاعات والخلافات الإقليمية: حيث يعتبر استمرارها عائقًا كبيرًا أمام تحقيق أيّ استقرار إقليمي دائم وقدرات تنموية في المنطقة. فلا يزال مستمرًّا النزاع البحري الصومالي الكيني، وكذلك النزاع الجيبوتي الإريتري على جزيرة دميرة. الأمر الذي يشكّل حجر عثرة أمام التكامل الإقليمي في المنطقة.

– التحديات الأمنية: يشكّل الإرهاب مصدر تهديد أمام الاستقرار والأمن الإقليمي في منطقة القرن الإفريقي. ومع تصاعد نشاط حركة شباب المجاهدين الصومالية في الداخل الصومالي، وتهديداتها لدول الجوار الجغرافي؛ فإن المساعي نحو تحقيق المزيد من عمليات التنمية في المنطقة تتطلب في الأساس استقرار الأوضاع الأمنية في الإقليم. كما تتطلب أيضًا استقرار الأوضاع الداخلية في دول المنطقة التي تشهد المزيد من النزاعات والصراعات العرقية والإثنية مثل إثيوبيا وجيبوتي.

– التخوُّف من تقويض السيادة الوطنية: حيث يتنامى هذا التخوُّف في ظل حالة التشبث بعدم المساس بالسيادة الوطنية للدول الخمس. كما أن هناك قلقًا متزايدًا من الطموح الإثيوبي الذي يشير البعض إلى أنه يتجاوز تحقيق التكامل الإقليمي إلى إنشاء كيان كونفدرالي في القرن الإفريقي تقوده أديس أبابا. وهو ما يُعظّم من الدور الإثيوبي في المنطقة في مقابل تقليص الأدوار الأخرى. خاصةً في ظلّ بعض التصريحات التي أدلى بها رئيس الوزراء الإثيوبي يشير فيها إلى إمكانية توحّد شعوب القرن الإفريقي وتحوُّل المنطقة إلى دولة واحدة متكاملة، وهو ما يُعَدّ مؤشرًا لطبيعة النوايا الإثيوبية تجاه دول المنطقة.

– المنافسة الإقليمية: حيث إن الطموح الإقليمي لبعض دول المنطقة قد يُمثّل عقبةً شديدةً أمام اتخاذ المزيد من الخطوات المتقدمة في تنفيذ المبادرة. فالطموح الإقليمي لإثيوبيا يواجهه طموح إقليميّ كينيّ من أجل تعزيز الدور والمكانة في شرق إفريقيا بشكل خاص وفي إفريقيا بشكل عام. كما أن الرغبة القديمة للرئيس الإريتري أفورقي في خلق دور إقليمي بارز يمكنها أن تتجدّد بعدما خرجت أسمرة من العزلة الإقليمية والدولية.

– التمويل: تقف عملية تمويل مبادرة القرن الإفريقي عائقًا كبيرًا أمام تنفيذها خلال الفترة المقبلة، خاصة أنها تتطلب نحو 15 مليار دولار. وهو ما يمكن أن يمثل بعض الصعوبات خلال المرحلة الراهنة في ظل الظروف الاقتصادية التي تمر بها المؤسسات والقوى الدولية بسبب انتشار وباء كوفيد-19.

– مناهضة السكان لبعض المشروعات الإقليمية: فعلى سبيل المثال واجه مشروع خط “لابسيت” الذي يربط بين جوبا وميناء لامو الكيني والذي يمر بمناطق يسكنها غالبية صومالية اعتراضًا من بعض السكان باعتبار أن المنطقة المقترحة لتدشين المصفاة هي منطقة حدودية ومحل نزاع بين كينيا والصومال منذ عام 1992م. فضلًا عن أن ميناء لامو يقع بالقرب من الصومال، وبالتالي فهو عرضة لبعض العمليات الإرهابية من جانب حركة شباب المجاهدين الصومالية.

خامسًا- مستقبل التكامل الإقليمي في القرن الإفريقي

على الرغم من أن التكامل الإقليمي في القرن الإفريقي من شأنه الحدّ من الآثار السلبية للتنافس الدولي والإقليمي على المنطقة، بالإضافة إلى تعزيز قدرة بلدان المنطقة على التصدّي لأي تحديات خارجية، وتحقيق الاستقلال السياسي والاقتصادي؛ إلا أن تنفيذ عملية التكامل الإقليمي في منطقة القرن الإفريقي يبدو بعيدًا إلى حدّ ما في ضوء المعطيات الراهنة التي تكشفها طبيعة الأوضاع الإقليمية والدولية؛ فالتحديات التي تقف حائلًا دون تنفيذ مبادرة القرن الإفريقي تُقلّص من الفرص السانحة لتحقيقها، خاصةً أنها لا تزال مستمرة ولا توجد لها حلول ناجعة في الأفق. كما أن حالة التنافس الإقليمي في القرن الإفريقي تخلق مناخًا غير مُوَاتٍ لتحقيق أيّ تقدُّم فيما يتعلق بعملية التعاون والتكامل بين دول المنطقة.

كما تظل بعض الأفكار التي تشير إلى احتمالية إقامة كونفدرالية القرن الإفريقي أو اتحاد دول القرن الإفريقي على غرار التجمعات الدولية مثل الاتحاد الأوروبي بعيدة عن الواقع في ظل الحساسيات المتعلقة بالسيادة الوطنية لدول المنطقة، وفي ضوء الطموح الإقليمي لبعضها، كما أنها تبقى مرهونة بتجاوز كل تلك التحديات التي تواجه هذا المشروع التكاملي وغيرها في ظل تسارع الأحداث والتطورات بين دول المنطقة، وفي ضوء التسابق الدولي والإقليمي لتعزيز النفوذ والهيمنة هناك.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.