رصد ــ السودان نت
.
التواصل بين إفريقيا والتراث الإفريقي مع الجزيرة العربية والقومية العربية قديمٌ ومتجذرٌ في غابر الأزمنة، لكن في الفترة الأخيرة قلَّت الكتابات والتعريفات برموز النهضة الفكرية لإفريقيا، خاصةً في منتصف القرن الماضي؛ حيث كانت حركات التحرُّر في أوج عظمتها؛ حيث كانت العديد من المدن الإفريقية -في غانا، تنزانيا، الكنغو، وكينيا- تنجب عظماء الفكر الإفريقاني؛ أمثال: باتريس لومومبا، علي المزروعي، ولا ننسى نيلسون مانديلا، كلهم جَمَعهم السعيُ إلى جَعْل إفريقيا مكانًا أفضل لعيش الأجيال القادمة.
والجدير بالذكر أن الإفريقانية والدعوة إلى نهضة إفريقيا، فكرةٌ تغنَّى بها كلٌّ من المفكرين الأفارقة وكثير من المفكرين من أصول إفريقية في أمريكا الشمالية والجنوبية، من أحفاد المهجّرين قسريًّا الأحرار، وليس كما يطلق عليهم (العبيد)؛ فالعبودية مظهرٌ فُرِضَ عليهم بقوة الآلة الإمبريالية الغربية، ومن خلالها رُحِّلَ قسرًا أكثر من ثمانية ملايين نسمة من إفريقيا إلى العالم الجديد.
لكنَّ غُرْم الأمواج والبعاد لم يُنْسِ أفارقة الشتات هذا الواقع؛ حيث رجع أحفادهم إلى القارة الأم عبر التحدث عن الفترة الاستعمارية وسلبياتها، وكيفية العودة بإفريقيا إلى التنمية والازدهار، ومن هؤلاء المفكرين العظام، نعرِّف بالمفكر والفيلسوف المغدور والتر رودني؛ من أجل تبصير الناطقين بالعربية بأفكاره وأطروحاته حول تنمية القارة الإفريقية، وذلك بمناسبة قرب مرور أكثر من خمسين عامًا على صدور كتابة (How Europe Underdeveloped Africa) 1973م.
والتر رودني في سطور:
وُلِدَ والتر رودني في غيانا البريطانية بأمريكا الجنوبية عام 1942م، وقُتِلَ فيها عام 1980م، وخلال هذه الفترة (38 عامًا)، حرَّك الساكن في عقول الكثير ممن آمن بفكرة إفريقيا وتنميتها.
درس التاريخ في جامايكا، وتخرَّج بالدرجة الأولى في البكالوريوس في عام 1963م، ونال درجة الدكتوراه في الدراسات الإفريقية من جامعة لندن وهو ابن 24 عامًا، وتخصَّص في تاريخ تجارة العبيد في أمريكا اللاتينية، نشر بحثه عام 1970م بعنوان (تاريخ ساحل غيانا العليا 1545م-1800م).
عمل مدرسًا في جامعة دار السلام تنزانيا في أعوام 1966-1967م، شارك في العديد من الأنشطة السياسية والتوعوية في أمريكا الوسطى والشمالية مثل حركة (Rastafarian)، حركة (Black Power).
كما يُعدّ رودني من الناشطين والمتحمسين لفكرة الإفريقانية.
اغتيل والتر رودني بقنبلة زُرِعَتْ في سيارته في أعقاب عودته من الاحتفال باستقلال زيمبابوي، وما يزال لُغز مقتله محيرًا لكثيرٍ من الأطراف.
تتكون أُسرته من زوجته باتريسيا وثلاث بنات وأخيه دونالد رودني الذي تُوفي في عام 2002م في غيانا الفرنسية.
دور أوروبا في تخلُّف القارة الإفريقية:
دور أوروبا في عدم تقدُّم القارة الإفريقية يُعدّ من الإصدارات المهمة في هذا المجال، وقد شكَّل واقعًا فكريًّا لأجيال من القادة الأفارقة في حقبة السبعينيات، خاصةً الطلاب الذين درّسهم البروفيسور والتر رودني في جامعة دار السلام بتنزانيا.
وقد تناول الكتاب مفاهيم متقدّمة بحكم زمن صدور الكتاب؛ حيث ابتدر النقاش بأسئلة حول التنمية، وعمد إلى إضاءات عميقة حول طرائق النمو الإفريقي في عدة نواحي قبل وصول الأوروبيين، وليس ذلك فحسب، بل دلَّل بكثير من الأمثلة على مشاركة وإسهام إفريقيا في التطور الرأسمالي.
أما الفصل الرابع في كتابه فيُعَدّ مربط الفرس من بيان مساهمة أوروبا في تخلُّف القارة الإفريقية، والمثال الواضح على ذلك: الترحيل القسري للأحرار الأفارقة، وحرمان القارة من مواردها البشرية عن طريق تجارة الرقيق.
وقد أسهب الكاتب في هذا المجال من خلال البابين الخامس والسادس؛ عبر شرح إسهام إفريقيا في التطوُّر الرأسمالي لأوروبا عبر استثمار رأس المال البشرى الإفريقي والمواد الخام التي أسهمت بقوة في تسريع وتيرة النمو الاقتصادي الرأسمالي الأوروبي، بالإضافة إلى محاكمة فكرة الاستعمار كنظامٍ ساهم بشكلٍ كبيرٍ في تخلُّف القارة الإفريقيَّة.
الجدير بالذكر أن الكتاب تُرْجِمَ إلى العربية بواسطة سلسلة عالم المعرفة في عددها 132، ترجمة الدكتور أحمد القصير، وراجعه الدكتور إبراهيم عثمان، وصدر للعربية في ديسمبر 1988م.
قضايا تنموية في تراث والتر رودني:
والتر رودني ناقش العديد من القضايا الخاصة بالتنمية في إفريقيا، مثل: أهمية العامل البشرى في التنمية والتخلف، بالإضافة إلى نقد استعباد البشر من أجل المكسب الاقتصادي، مع التركيز على الماضي الاستعماري لبريطانيا وفرنسا والبرتغال، وكذلك إسبانيا.
وهذه العناوين تقودنا إلى إشكاليات في الوقت الحاضر أقعدت التنمية في إفريقيا، ومنها الهجرة الشرعية وغير الشرعية، وأكثرها تأثيرًا في مستقبل القارة: هجرة العقول الشابة؛ حيث تخسر البلدان الإفريقية الملايين من الدولارات في تعليمهم وتأهيلهم، ونتيجة للنقص الحادّ في فُرَص العمل؛ تخسر القارة موردًا مهمًّا في التنمية الاقتصادية.
والجدير بالذكر في ذات المجال هو تداعيات قضية (جورج فلويد) التي هزَّت أرجاء العالم، والتي أعادت إلى الأذهان التفكير في أفارقة الشتات وقضاياهم المُلِحَّة، ومناقشتها ضمن قضايا مساهمة الغرب في التخلُّف التنموي في إفريقيا، وليس بمعزل عن القضايا الأخرى، وهل يمكن لأفارقة الشتات العودة للمساهمة في تنمية القارة الأم، كل هذه الإضاءات يمكن أن تُسْتَشَفّ من خلال التراث الزاخر للمفكر الراحل والتر رودني.
انبثق فكر والتر رودني منذ عام 1977م من خلال افتتاح مركز الدراسات الإفريقية بجامعة بوسطن سلسلة محاضرات والتر رودني.
وفي عام 1984م، أنشأ مركز الدراسات الكاريبية بجامعة وارويك محاضرة والتر رودني التذكارية؛ تقديرًا لحياة وعمل أحد أبرز العلماء المشاركين في الشتات الأسود في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ لتعريف الأجيال القادمة بأهمية ربط قضايا أفارقة الشتات بالقارة الأم.
وفي نفس السياق في عام 1993م، منحت حكومة جويانا بعد وفاتها أعلى تكريم لوالد رودني غيانا، وسام الامتياز من غيانا، وأنشأت حكومة غيانا أيضًا كرسي والتر رودني في التاريخ في جامعة غيانا كاعتراف بالتميز الذي أضافه إلى التراث الغيني؛ حيث يُعدّ من أشهر الشخصيات في البلاد؛ إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق.
في عام 1998م، افتتح معهد الدراسات الكاريبية، جامعة جزر الهند الغربية، سلسلة محاضرات والتر رودني، في عام 2004م، تبرعت أرملة رودني باتريشيا وأطفاله بأوراقه إلى مكتبة “روبرت ل. وودرف” بمركز جامعة أتلانتا.
منذ عام 2004م، تُعْقَد ندوة عن والتر روديني كل 23 مارس (عيد ميلاد رودني) في المركز تحت رعاية المكتبة وقسم العلوم السياسية في جامعة كلارك أتلانتا، وتحت رعاية عائلة رودني.
في عام 2005م، أقامت لندن بورو من ساوثوارك لوحة في ساحة مكتبة بيكهام في ذكرى الدكتور والتر رودني، الناشط السياسي والمؤرخ ومناضل الحرية العالمية.
يعد عام 2006م الأهم على الإطلاق في مسيرة الاحتفاء بتراث والتر رودني؛ حيث عُقد مؤتمر دولي حول والتر رودني في معهد دراسات التنمية بجامعة دار السلام.
وفي نفس العام، تأسَّست مسابقة “مقال والتر رودني” في قسم الدراسات الأمريكية والإفريقية في جامعة ميشيغان. كما أنشأت عائلة رودني مؤسسة والتر رودني التي يقع مقرها الرئيسي في أتلانتا، وتهدف إلى مشاركة أعمال وإرث رودني مع العالم.
في عام 2010م، عقدت ندوة والتر رودني التذكارية في كلية يورك، كما تم إنشاء قسم الدراسات الأمريكية الإفريقية في جامعة سيراكيوز جائزة Angela Davis / Walter Rodney للإنجاز الأكاديمي، وأنشأ قسم الدراسات الأمريكية والإفريقية (DAAS) في جامعة ميشيغان برنامج زمالة DuBois-Mandela-Rodney لما بعد الدكتوراه.
في عام 2012م، احتفل مؤتمر والتر رودني بالذكرى الأربعين لنشر مجلة “كيف تخلَّفت أوروبا في إفريقيا” في جامعة بينغهامتون، تم إدراج Walter Rodney في قائمة Black Achievers Wall في متحف الرقّ الدوليّ، ليفربول، المملكة المتحدة.
كل هذا التكريم للمفكِّر والتر رودني، يجب أن ينعكس على الأجيال القادمة ليكون نبراسًا يُحْتَذَى للطالب المُجِدّ، والمفكِّر غزير الإنتاج الفكري، الذي عاشَ من أجل قضية ودفَع حياته ثمنًا ومهرًا من أجل أن تدبّ الحياة في جسد القارة الأم ولو بعد حين.