ما الذي أنعيه على سياسيينا (٥)

0 137
كتب: د. الباقر العفيف
.
“وإذا الموءُودة سُئِلَت بأي ذنب قُتلت”
الصادق وصغائر الأمور
عجز السيد الصادق عن الارتفاع عن الخصومات الشخصية. وأنصع مثال على ذلك حملته الانتقامية ضد الدكتور عمر القراي. وقد رأينا في لقائه الأخير بجريدة السوداني، كيف استدرجه الكوز ضياء الدين بلال بسهولة وحفر له حفرا أوقعه فيها. فاللقاء كله يخدم أجندة ضياء الدين الشخصية في الكيد للثورة كأحد الخاسرين منها. ويبدو أنه وجد في الإمام ضالته ولعب على تحيزاته، واعتبره حصان طروادة، أو” ثغرة الدفرسوار” في جدار قوى إعلان الحرية والتغيير يمكن أن ينفذ منها للإحاطة بقوى الثورة. واللقاء كله عبارة عن طعن وهجوم على حكومة الفترة الانتقالية.
سأله هذا السؤال:
• “التعديلات الدستورية وقبلها تعيين عمر القراي ألا تعمل على تعبئة الكيانات الإسلامية وتوفير مادة خام لها لتعمل عليها في المجتمع”؟
وهذا السؤال من عينة الأسئلة الخبيثة التي توحي بالإجابة المطلوبة ( leading question).
• فأجابه السيد الصادق: “نعم صحيح. ولذلك طالبنا بإلغاء التعيينات هذه، وحمدوك وافق ولكنه لم ينفذ”.
يُلاحَظ أن السيد الصادق أهمل موضوع التعديلات الدستورية وتلقَْف موضوع عمر القراي.
• أعاد ضياء السؤال: “أي التعيينات تقصد”؟
وهنا أيضا يتخلى ضياء عن سؤاله حول التعديلات الدستورية نهائيا، ويعيد عليه السؤال للمرة الثانية علما بأن الإجابة واضحة ولا تحتاج للمزيد من التوضيح. فالتعيينات مقضود بها تعيين عمر القراي ولكن الصحفي الكوز يريد أن “يقنطر الكورة” للسيد الإمام أمام مرمى القراي.
• فأجاب السيد الصادق: “زي تعيين القراي”
وهنا نلاحظ أن الصادق أدرك أن المطلوب منه ترديد ذكر اسم الدكتور عمر القراي مرة ثانية للمزيد من التأكيد، ولترسيخ الموضوع في ذهن القارئ، فينساق سعيدا لذلك. ثم يشرح الصادق أسبابه للمطالبة بفصل عمر القراي بقوله:
• “لأن هناك قدسية خاصة للمناهج ولا يمكن أن يتولى أمرها أناس نظرتهم للعقيدة مثيرة للجدل”.
“واو waw ” كما يقول الخواجات.
الكلام المقدَّد وفاضي وخمج
رأينا عجائب كثيرة للصادق المهدي ولكن لم نر مثل هذه الحالقة من قبل. لو قرأت هذا الكلام غير منسوب لشخص لتصورت أن قائله ذلك الشيخ السلفي الجلف محمد مصطفى، أو التكفيري وهران أو الداعشي محمد الجزولي أو غيرهم من المعاتيه الذين فرختهم الإنقاذ. ولكن أن يجئ مثل هذا الحديث المتخلف والعنصري من سياسي مجرب حسن الظن بنفسه لدرجة أن يصرح على رؤوس الأشهاد أن له صفات نادرة، وأنه ألف أكثر من مئة كتاب بعضها في حقوق الإنسان، فلعمري إنها الحالقة.
كلنا نعلم أن الدكتور عمر القراي انتقد الصادق المهدي نقدا لاذعا بعشرات المقالات. ونعلم أن هذا النقد قد أحفظ عليه السيد الصادق المهدي، وأضغن أسرته، لدرجة أن إحدى كريمات الإمام دعت على الدكتور عمر القراي، مبتهلة لله أن يريها فيه انتقامه، وكانت تردد “حسبنا الله فيك ونعم الوكيل يا القراي”.
هذا هو السبب الحقيقي لسعي السيد الصادق لفصل القراي عن عمله، أي ببساطة انتقاما منه. وبطبيعة الحال ففصل القراى، إن تحقَّق، سوف يخدم للإمام أغراضا أخرى، ضمنها تأكيد فعالية ومضاء سلاح الدين في هزيمة الثورة، وإرسال رسائل للكيزان والسلفيين وغيرهم من “أهل القبلة”، وللناشرين الذين تضررت مصالحهم من تغيير المناهج وإيكال طبع الكتب للمطابع الحكومية. وأهم من ذلك كله أن فيه ضربة صاعقة لقرارات الثورة، ومقدمة للمزيد من التراجع. ولذلك كان هذا الأمر من الأهمية عند الصادق بمكان لدرجة أن يناقشه مع السيد رئيس الوزراء وكأنها قضية محورية يتوقف عليها مصير البلاد كلها. فأي تبديد لوقت رئيس الوزراء وأي جهد ضائع عديم القيمة بالنسبة للصادق نفسه. لأنه حتى لو فُصِل القراي عن عمله فسوف لن يؤثر في سياسة الوزارة شيئا، اللهم إلا إذا فَصَل معه الوزير والوكيلة وكل التيم العامل في المناهج، وأتى بالكيزان مرة أخرى. أما القراي الفرد فسوف لن يتضور جوعا، إن هو فُصِل من العمل، لأنه عندما عاد للسودان لم يفعل ذلك طلبا للرزق، وإنما تلبية لنداء الوطن. ففي مقدوره أن ينعم برغد العيش خارج أو داخل البلاد، مثل الآلاف من حملة الدرجات العلمية العليا، لو كان هذا سعيه في الحياة الدنيا.
الشاهد أنه لا يمكن قراءة هذا الأمر غير أنه “ثأر” أو vendetta كما يعبّر الانجليز، من السيد الصادق ضد القراي. ولكن السيد الصادق كشأن أغلب السياسيين يُفصِح عن شيء ويُخفي أشياء. فهو بدل أن يقول الحقيقة العارية وهي أنه يريد أن ينتقم لنفسه من القراي ويعاقبه على انتقاده له بمقالات أثارت حنقه عليه، يذهب ليطعن في عقيدته. يقول السيد الصادق: “لأن هناك قدسية خاصة للمناهج ولا يمكن أن يتولى أمرها أناس نظرتهم في العقيدة مثيرة للجدل”. يا لها من سقطة!! يعجبني تعبير الخواجات عن هذا النوع من الكلام المهلهل بعبارة What a blunder وأيضا يستخدمون كلمة gaffe، وأعتقد أن أقرب تعبير لها في لغتنا الدارجية كلمة “دُّرَّاب”. والدرابة الكبيرة التي ألقاها الصادق المهدي علينا هي تعميمه العقاب على جميع الجمهوريين والجمهوريات، بدل قصره على شخص القراي وحده.
فعبارة السيد الصادق تُجَرِّد مجتمعا بحاله من حقوقهم الدستورية في تنسم الوظائف دون تمييز، بسبب من عقيدتهم. وتُحَوِّل مشكلته الشخصية مع القراي لمعركة دينية أو عقائدية مع قطاع من مواطنيه. وكذلك يمكن أن يلحق رأس السوط مجتمعات أخرى ومواطنين آخرين من “إخوانه في الوطن”، وأخواته كذلك، مثل المسيحيين وأصحاب الديانات الأفريقية التقليدية، وكل من يرى السيد الصادق في عقيدته “إثارة للجدل” من مواطني هذا البلد المتعدد الأعراق والثقافات والأديان والعقائد والأفكار واللغات. فهل هذا بعض مما يبشرنا به السيد الإمام المتطلع للرئاسة للمرة الثالثة؟
وماذا عن عقيدة المهدية
فكيف لا ينتبه السيد الصادق لهذا المنزلق الخطير الذي قاده إليه ذلك الكوز المحترف. وأغرب من ذلك كيف يرى الإمام القذى في عين القراي ولا يرى العود في عينه. مع العلم بأن نفس هذا الحديث يمكن أن يقال عنه هو شخصيا. فنظرة السيد الصادق في العقيدة أيضا “مثيرة للجدل”. فهو يؤمن بأن جده محمد أحمد الدنقلاوي هو مهدي الزمان المنتظر وأن من لم يؤمن بمهديته قد كفر. في حين أن المهدي المنتظر عند المسلمين السُْنِيِّين في مشارق الأرض ومغاربها، باستثناء طائفة الأنصار في السودان، لم يأت بعد. أما عند الشيعة فالمهدي قد ظهر قبل ظهور جد الصادق بقرون طويلة، وهو موجود في سرداب الغيبة بِسُرَّ من رأى. وعلى ذلك فجميع المسلمين قطعا ينكرون مهدية جده، وهم وفق تلك العقيدة كفارا. فإذن عقيدة الصادق المهدي الدينية عند جميع المسلمين “مثيرة للجدل”. وإن كان هذا الأمر يجرد معتنقي العقائد من وظائفهم وحقوقهم الدستورية فهو بالضرورة يُجَرِّد الصادق من الحق في أن يتطلع لرئاسة الوزارة للمرة الثالثة في عمره المديد. فللرئاسة “قدسية خاصة” أعم وأشمل وأبعد أثرا من “قدسية” المناهج.
في الحقيقة يحار المرء وهو يرى أكبر القادة السياسيين عمرا وتجربة يغرق في خصومات شخصية تافهة وقليلة القيمة trivial تمنعه من التزام الحق والعدل، وتعميه عن قول الله تعالى: “يأيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنأن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون”. فهل يا ترى يحمل السيد الصادق المهدي بين يديه خيرا للسودان؟ نحيا ونشوف.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.