حريق كسلا !

0 66

كتب: عثمان ميرغني

.

للدهشة، جبل مرة في أقصى الغرب جنة الله في الأرض، وكذلك كسلا في أقصى الشرق “حديقة العشاق” التي تغنى بها الشعراء.. ويشاء قدر شعب السودان أن يتحول كلا الفردوسين إلى ميدان للحرب والقتل والدمار والتشريد.. بدلا من أن يكونا قبلة السياحة والجمال والخير.

النار ظلت تحت الرماد منذ الصدامات القبلة السابقة، تنتظر عود ثقاب جديد ولم يتأخر عليها، أعلنت الحكومة تعيين الأستاذ عمار صالح واليا لولاية كسلا، وفي الحال امتشق البعض سيف القبلية وانقسم الملعب بين فريقين يلعبان على ورقة الهوية بعيدا عن حسابات مصلحة سكان الولاية.

و بعد أكثر من شهر من أداء الوالي عمار للقسم لم يستطع الوصول إلى كسلا خشية مزيد من المعارك القبلية، ومع ذلك لم تنتظره الفتنة فاندلعت النيران على مدى أيام وبلغت الذروة أمس ، الخميس، وفاضت أرواح طاهرة ليس لسبب سوى كرسي لن يدوم إلا لبضعة أسابيع، إذ أن تعديلات مرتقبة بعد توقيع اتفاق السلام قد تطيح بكثير من الذين عُينوا أخيرا وتأتي بالقادمين الجدد.

الوالي الجديد، عمار، قال أن تراجعه قد يمنح الشرعية لاستمرار مثل هذه المعارك القبلية وتحذو مناطق أخرى المثال نفسه، ويصبح تعيين المناصب الدستورية رهن محاصصات عرقية عبثية. أما الحكومة التي عينت عمار فلاذت بصمت لا يُفسر.

في تقديري الأمر يتعدى كونه نزاعا عرقيا أو سودانا جديدا ينهض على بطاقات الهوية القبلية ويمزق نسيجه ووحدته بحرائق الكراهية المتسارعة.. الأمر أبعد من ذلك كثيرا، وأية محاولة لتبنى مشروعات اصلاح تستهدف نزع فتيل القبلية ستسير في الاتجاه الخاطئ.

أس البلاء الذي يعاني منه السودان هو غياب حاسة (المصلحة المباشرة) عند المواطن العادي، بعبارة أخرى، الخطاب العام والحكومي بالتحديد يتجاهل تنمية الاحساس بالمصلحة والمستقبل الزاهر لدى المواطن العادي، وتظل دائما نظرة المواطن للعلاقة مع الحكومة محصورة في أضيق نطاق بين الحقوق والواجبات.

القبلية ليست شرا مطلقا، بالعكس هي واحدة من أسوار حماية الهوية السودانية، فالتباين العرقي الذي يصل حد اختلاف اللغات بل الأديان بين بعض القبائل هو مصدر ثراء الوجدان السوداني ومتانة الشخصية الوطنية، ويمكن استثمار الارتباط والعواطف القبلية لصناعة مزيج ثقافي سوداني فريد يصبح واحدا من أهم موارد وأصول الدولة السودانية..

و تجنب شرور التناطح العرقي رهن بإعلاء قيم المصالح (الشخصية) للمواطن في الانتماء القومي للدولة، فالحرب والمعارك والدماء دائما وقودها غياب الأمل والمستقبل في ظلام الفقر والعوز وضعف البنية الحضارية للدولة.

من الحكمة بناء المشروع الوطني الذي يضخ الأمل والرغبة في الحياة الكريمة لكل السودانيين، و ترفيع اتصال الدولة المباشر بالمواطن خاصة في الجانب الذي يمثل المصالح (الحقوق)، حتى تعلو الروح القومية فوق النزوات العرقية.

ماهي المشروعات المنتظرة للمواطن في كسلا؟ ماهي آفاق المستقبل المنظور لأهلها؟ ما هي فرص الازدهار والنمو؟ كل ذلك غائب تماما عن الخطاب العام، ويكتنف الوضع فراغ عريض لا يملأه إلا التباهي والتناصر العرقي المحشو ببارود قابل للاشتعال بـ(أتفه) عود ثقاب.

للتدليل على هذا المنطق انظروا لما يحدث الآن في كسلا..

ماهي المشكلة في أن يتولى منصب الوالي أي مواطن سوداني دون تحديد لأصله أو فصله؟ هل المطلوب خدمة مصالح المواطن؟ أم الجاه القبلي؟

لو أدرك المواطن العادي مصالحه المباشرة من الحكم الجديد في عهد الثورة، وأحس بما يكسبه (شخصيا) هو وأسرته لأصبح ذلك هو المحك، وبدلا من أن يطلب من الوالي رفع بطاقة الهوية سيطلب تفاصيل “البرنامج” والمشروعات..

بالله عليكم في زخم هذا التنازع هل سأل أحد عن “البرنامج”؟ هل هناك أي خطاب فيه ذكر لـ”برنامج”؟

غياب الاحساس بالمصلحة المباشرة يخلق “الفراغ” الذي يحشوه بارود القبلية..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.