عن حق كتابة التاريخ أو إعادة كتابته في اتفاق جوبا: يا لخاطر عبد الله آدم خاطر الطايب

0 123
كتب: د. عبد الله علي إبراهيم
.
نبهتني كلمة للدكتور حسن عابدين إلى عوار فكري في نص اتفاق المنطقتين (جبال النوبة والنيل الأزرق) الذي جرى التوقيع عليه بين الحكومة والحركة الثورية قبل أيام. فجاء في الفصل الثالث منه بحق لسكان المنطقتين المشاركة في إعادة كتابة تاريخ السودان لبيان مساهمات سائر شعوب السودان في ترسيخ الوحدة الوطنية. وكفل للمنطقتين إنشاء آليات للغرض لتنزيل هذا الحق بتكامل مع المؤسسات القومية. وخص في فقرة تالية دراسة الرق، كتاريخ مشترك، بموضوعية.
حق “سكان” منطقة ما في كتابة التاريخ أو إعادة التاريخ بآليات تتواضع عليها بدعة. وكما قال حسن فالتاريخ يكتبة المؤرخون من المنطقتين أو من باقي السودان وحتى للأجنبي. ولم نعرف بعد “آلية” لكتابته أو إعادة كتابته غير الجامعة التي ترعرع التاريخ المهني في كنفها الأوربي منذ القرن التاسع عشر.
وهو بدعة لأنه لم نسمع بنظام منع كتابة التاريخ كما يمنع الإضراب مثلاً. قد يهمل في تمويل الجامعة كما فعلت الإنقاذ فيتبخر صرفها على البحث والباحثين في التاريخ وغير التاريخ. وقد تروج حكومة لتاريخ مزور أو استعلائي، أو قد تصادر كتاباً بعينه في التاريخ. ولكن لم نسمع بأن كتابة التاريخ مما يندرج ضمن حقوق السكان إلا في حدود حرية التعبير. وهي حرية تكفل لمهنيين في التاريخ وفي شعب التاريخ بالجامعات خاصة وضع أسبقيات بحثهم، وإحسان الصرف عليه، وموالاته بالإشراف، والحرص على نشره.
عبت دائماً على صفوة الحكم والمعارضة الانفصال الشبكي بين السياسة والثقافة الذي تعاني منه. وقلت إنه أصل الهرج في حياتنا الاجتماعية. فلا أدري مثلاً لماذا تأخرت الحركات المسلحة عن كتابة تاريخ أقاليمها يداً بيد مع تحريرها. هل استردفت أي منها أي معهد للدراسات العلمية عن بلدها سواء بإنشائه أو بعون من أنشأه مستقلاً؟ ولا عذر لها بفقر الجيب بالذات لأن الحركات، متى أرادت رباط الخيل، تدبجت به من أي مصدر كان. فلم تلق أي منها السلاح لعدمه. وقلت حين عطلت الحركة الشعبية لتحرير السودان مجلتها الثقافية الرشيقة لضيق ذات اليد إنكم لو فكيتو كم برين في السوق لمولتم المجلة إلى جنى الجنى. سأعود إلى الموضوع مرة أخرى لأنه دخل الحوش. ولكني أنشر هنا كلمة عن معهد لدراسات دارفور اتصلتُ به في آخر الثمانيات بفضل عبد الله آدم خاطر لبيان فرصة غراء في كتابة تاريخ دارفور تلاشت. ولم تجددها الحركات المسلحة التي جاءت في أعقابها. فمما يستغرب له المرء كيف يعني الثوري ببندقيه قبل كراسه. فما الذي سيلجم السلاح من الانقلات سوى الثقافة؟ فلماذا، والحال على ما عليه، تأتي الثقافة استدراكاً للمسلحين لا استصحاباً؟
وهذه كلمة قديمة ذكرت فيها خاطر ومركزه الثقافي:
يعجبني في كتابات الأستاذ عبد الله آدم خاطر مزاجه المعتدل الرائق. فكلماته التي ينشرها في “الرأي العام” تخاطب العقل، وتثق فيه، وتنزل على الروح برداً وسلاماً. فهو ليس مثلي، أو حتى مثل الدكتور حسن مكي أو الدكتور الطيب زين العابدين. نصدر في أكثر ما نكتب عن خيبة في عقائدنا الأولى وأسف لخذلان الرفاق القدامى، فيشوب قلمنا العكر. فخاطر ليس أقل منا التزاماً بالعمل العام. وله سنين عددا في هذه الخدمة. ولكن مقالته كالسهم يسدده بخبرته المؤكدة قاصداً الحق، لا يلوي على شيء، ولا يستخفه لغو ولا كذابا.
فكلمته التي دعا فيها إلى إنقاذ بنك غرب السودان، وهي دائرته في السياسة، هي وعي محض وعي. وعي بلا مرارة ولا احتقان ولا غمز بفلان ولا لمز لعلان. فلا ترد ذكرى الناس في أحاديثه إلا في مواضع المحبة والولاء والعرفان. فقد قرأت له يذكر بالخير البروفسير محمد أحمد الحاج، والبروفسير عبد الله الطيب، والدكتور مالك بدري، والدكتور عز الدين إسماعيل، والسلطان بحر الدين. فالناس عند خاطر جواهر ليس لأنهم قد بلغوا الكمال، والكمال لله، ولكن لأن وجدان خاطر لا يسع إلا العرفان ولأن ذاكرته لا تختزن إلا الفضل.
لو شاء خاطر أن يكون مريراً ومسيئاً وقانطاً وحانقاً لما لامه أحد. فهو مشغول منذ عقدين أو أكثر بشأن دارفور المضروبة بجائحات سوء الحكم، ولؤم الطبيعة، والفتن العنصرية، ومطامع أهل الجوار. ولابد أنه حزن لعهد منقوض، أو اغتم لخذلان ممدود، أو انجرح من قول مرذول. وقد تجلد الرجل تسبقه ابتسامة إلى الود والعفو والشغل من جديد. تعرض لابتلاءاته من أبناء الغرب وغير الغرب من هم أوسع حيلة وخبرة غير أنهم ضاقوا، واكتأبوا، وتململوا، وشفقوا، وقنعوا في يقظة أهلهم، فاستبقوهم إلى ساحة الوغى، وقد تأبطوا سلاحاً أو تيارًا أو شعارًا، أو هتافاً. غير أن خاطر وطن آخر، وقمرً آخر، وجبل مرة آخر. فهو يصهر في وجدانه الدارفوري السوداني الإسلامي خامات المظالم الجهوية العاولة (أي القديمة) لتشع وعياً بين جمهرة الناس وسوادهم الذين بيدهم وحدهم إرادة التعبير وقراره. فلم أر بيننا من مثله اعتقاداً بأن شفاءنا من بشاعتنا وتيهنا وشرهنا وخساساتنا هو الثقافة. والثقافة صبر ومصابرة وليست أنواطاً. وهي موالاة حتى تتنزل في واعية الناس فيغيرون ما بأنفسهم، ليغيروا شروط حياتهم وديدنها، فيبدلون سكونهم إلى حركة، ويحيلون سرهم إلى جهر، ويوطنون حلمهم في الشغف، ويرصدون بالثقافة ضوء النجيمات البعيدة القريبة. ولذا ظل يكتب بمثابرة في حين سئم من هم جيله أو دونه من وعثاء الكتابة بعد المقال الأول أو الثاني، وخرجوا للدواس.
عرفت أو ما عرفت خاطر حين سألني في عام 1987 أو نحوه أن أنصحه بشأن مخطوطات عن تاريخ دارفور تجمعت لديه من مؤرخين مجتهدين حين افتتح دار الثقافة للنشر والإعلام. وكنت أغشى مكتب الدار في خلوة المساء أقرأ، وأعجب، وأتعلم. وما زلت أتمنى أن يكون ذلك المخطوط الذكي عن السلطان علي دينار قد خرج للناس أو هو بسبيله أن يخرج. وأذكر أن صديقاً يسارياً حذرني من مغبة العمل في دار خاطر لأنها عنصرية. فلم يقع حديثه في نفسي وقلت له: مرحباً يا عنصرية إذا تدثرت بالثقافة، وجئتها بين دفتي كتاب ينشر على الملأ للسودانيين قبل الآخرين. وكانت وصفة العنصرية آنذاك هي طريقة صفوة الشمال النيلي في إخذاء كل تفتح إقليمي أو إثني أو عرقي وتجريمه. ولذا حرمت هذه الصفوة نفسها من العلم الحق بالغبن الثقافي والسياسي والاجتماعي والتاريخي الذي انطوت وتنطوي عليه هذه التقيحات من الهامش. ثم جاء زماننا هذا في ظل دولة الإنقاذ اقتضى الكسب السياسي المعارض لهذه الصفوة في النيل الأوسط أن تفرح، بغير استثناء، بكل حركة إقليمية وإثنية فرحاً لم تلطفه معرفة أو يهذبه نظر.[هل لاحظ القارئ أنني انصرفت عن عرفان خاطر إلى نقد الزميل اليساري وهذا عين المكر] ولخاطر إلفة مع دارفور لم تزدها الحادثات إلا قوة ولم تصرفها الصوارف عن وصل دارفور بهذا البلد الجميل الوسيع: السودان.
شدني عنوان باب خاطر: “للدنيا والزمان” وهي عبارة نشأت في ظل لها وريف وأنا صغير حين كانت ترددها عجباً الوالدة، زوجة الوالد، أمهاني علي عثمان، رحمها الله وأحسن إليها.
أقرأوا خاطر.. تشفون. وتأملوا كلماته تعرفون أن اللغة ليست مدية أخرى. فهي، بالأحرى، بلسم للعقل، وشفاء للروح، وضمادة للجراح.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.